علم بجد

علم بجد – مقال 9

التطور ما بعد داروين

التطور ما بعد داروين

تطرقنا في المقال السابق إلى كيفية صياغة داروين لنظريته، والأسس التي استند عليها، والفروض الأساسية التي شكلت النموذج النظري لنظرية التطور في شكلها الأساسي.
واليوم إن شاء الله نعرض للتغيرات التي طرأت على النظرية بعد داروين، وشكلها الحالي، والنماذج التطورية المختلفة.

ما بعد داروين

لم يكن في زمن داروين قد تم تقديم قوانين الوراثة المندلية كأساس لعلم الوراثة بعد على يد (غريغور مندل)، ولم يكن قد تم اكتشاف الحمض النووي (DNA) وتركيب الشريط الوراثي وما به من معلومات على يد (فرانسيس كريك وجايمس واتسون)، وكيف تتغير تركيبة هذا الشريط عن طريق الطفرات والعوامل فوق الجينية.
لذا ففي المراحل اللاحقة من تاريخ النظرية، فإنه قد تم تعديلها لتحاول استيعاب الاكتشافات الجزيئية والوراثة المندلية لتصبح ما يسمى “الداروينية الحديثة – New Darwinism” أو ما يطلق عليها “النظرية التركيبية الحديثة – New Synthetic Theory” لتتناول مسألة حدوث الطفرات وتوريثها. وفي الواقع، فإن المندلية قد تمت محاربتها من بعض التطوريين في أولها، حتى اضطروا إلى استيعابها.
إن الإضافة الأساسية التي أضافتها “التركيبية الحديثة” هي أنها قد اقترحت أن السبب الأساسي للتغير في الكائنات الحية هو الطفرات العشوائية، ثم يعمل الانتخاب الطبيعي على انتخاب الأفراد ذات الطفرات النافعة، واستثناء الأفراد ذات الطفرات الضارة الأقل قدرة على البقاء، أو الأقل في الكفاءة.
غير أن الداروينية الحديثة ليست هي “الإصدار” الوحيد للتطور الحيوي حالياً!

إن أوضح ما يواجه القارئ في موضوع التطور حين الاطلاع على كتابات داروين وكتابات التطوريين بعده، تلك الحرب التي يمكن أن نسميها “حرب التعاريف” بين التطوريين أنفسهم من جهة، وبين التطوريين ومعارضي التطور من جهة أخرى.
فإن الناظر في كتابات علماء البيولوجيا التطورية بعد داروين سيجد أنه حتى مفهوم “التطور” نفسه يختلف من مجموعة إلى أخرى، وسيجد أن هناك عدة “إصدارات” من نظرية التطور تختلف عن بعضها، وفي بعض الأحيان، تختلف اختلافات جذرية وواسعة في المفاهيم الأساسية التي طرحها داروين وأسست عليها الداروينية الحديثة.
فسنجد على سبيل المثال أن عالمة مثل (يوجيني سكوت -Eugenie Scott ) تفضل أن يتم تعريف التطور على أنه “مسألة تخص تاريخ الكوكب: تختص بالطريقة التي نحاول بها فهم التغير عبر الزمن، الحاضر مختلف عن الماضي. لقد حدث تطور، لا يوجد جدل في العلم حول ما إذا كان قد حدث، ولقد استخدمت هذا النهج لتدريس الطلبة في الكليات” (22)
لكن ما هو الوزن العلمي لهذا التعريف، أن الحاضر يختلف عن الماضي؟ في الواقع لا شيء البتة، فهذه الجملة هي تعريف لظاهرة عدم ثبات الكون والحياة، وليست تعريفاً لنظرية التطور التي صاغها داروين. لكن كما نرى، يتم استخدام الظاهرة أحياناً محل النظرية للتأسيس بين الطلاب للتعبير الشائع “التطور حقيقة علمية”.
يقدم لنا قاموس التعاريف البيولوجية (Biology Online) تعريفاً آخر للتطور، فيعرفه بأنه “التغير في التركيب الجيني للسكان على مدى الأجيال المتعاقبة. الانتخاب الطبيعي، والتزاوج، والتهجين، والطفرات، كلها عوامل قد تؤدي للتطور” (23).
وهذا التعريف أيضاً لا يضيف في الواقع أي شيء للظاهرة المرصودة، فنحن نعلم أن الأبناء والأحفاد تختلف جينياً عن أجدادها من نفس الأنواع، فلا شيء في هذا التعريف يخص السلف المشترك العام، ولا تطور كل الأنواع من أنواع سابقة بالضرورة.
بينما يفضل تطورياً آخر مثل (جيري كوين – Jerry Coyne) أن يصف التطور بهذه الطريقة: “لو أن هناك أي حقيقة حول الطبيعة، فستكون أن النباتات والحيوانات تبدو ملائمة بشدة ومصممة بعناية فائقة لتعيش حياتها … وإلى ماذا يشير ذلك؟ إلى صانع عظيم بالطبع.. حتى جاء داروين ونفى فكرة التصميم الغائي تماماً عن طريق فكرتي التطور والانتخاب الطبيعي” (24)
هكذا يرى عالم تطوري أن يقدم التعريف الأساسي لنظرية التطور على أنها فكرة داروين لنفي وجود التصميم أو المصمم أو الصانع في الطبيعة، وهو تعريف غير علمي في حد ذاته، لأنه في الحقيقة لا يتناول حقيقة الظاهرة، ولا كيف تفسر النظرية الظاهرة، ولكنه يحاول تعريف الغرض الفلسفي أو الاعتقادي من وراء النظرية. ولعل (كوين) هنا يحاول أن يشير إلى التعارض الظاهر بين داروين ومعاصريه الذين كانوا ينتصرون بشراسة لفكرة التصميم في الكون كما أسلفنا سابقاً.
بل نجد حتى أن بعض علماء البيولوجيا الآخرين يرون أن نظرية التطور غير ذات فائدة على الإطلاق للتقدم العلمي، فيقول عالم البيولوجيا والبروفيسور بجامعة هارفارد (مارك كيرشنير):
“في خلال المئة سنة الماضية، كل علوم البيولوجي قد تقدمت دون الحاجة إلى نظرية التطور، فيما عدا البيولوجيا (التطورية) نفسها. البيولوجيا الجزيئية، الكيمياء الحيوية، علم وظائف الأعضاء، كلها علوم تقدمت دون أن تأخذ التطور في حسبانها على الإطلاق” (25)
لكن المثير للتساؤل حقاً هو، إذا كانت نظرية التطور علمية وصحيحة، وهي حقيقة كالجاذبية كما تقول الأبواق الدعائية التطورية، فلماذا نشأت وانشقت عنها العديد من النماذج والإصدارات المختلفة التي تدعي كلها أنها “نظريات تطورية”؟ هل هي محاولات تكميلية لإصلاح بعض أوجه القصور في النظرية العامة، أم أنها تختلف عنها في بعض أو كل فروضها الأساسية؟
سنستعرض هنا بعض تلك النماذج والأطروحات على عجالة وسنفصل ما نحتاج إلى تفصيله منها في الفصول التالية جنباً إلى جنب مع مناقشة فروض نظرية التطور.

التوازن المتقطع – Punctuated Equilibrium

تم طرح هذا النموذج على يد عالمي الأحياء التطورية (ستيفن جاي جولد، ونيلز إلدردج) (26) منذ عام 1973 لسبب واضح وأصيل، هو النقص الهائل في الإثباتات الأحفورية على التدرج البطيء الذي افترضه داروين.
أدرك جولد وإلدردج أن السجل الأحفوري لا يمتاز بالتدرج على الإطلاق، بل بالثبات Stasis والفجوات بين مجموعات الأحياء المختلفة. فاقترحا بناءاً على ذلك أن التطور يحدث في شكل “قفزات” في دفعات مفاجئة تفصل بينها فترات طويلة للغاية من الاستقرار.
طبقًا لهذا النموذج، فإن الأنواع الجديدة تنشأ بسرعة بسبب ضغوط شديدة في مجموعات صغيرة معزولة، وبينما تظهر الأنواع الجديدة، تتعرض الأفراد لتغيرات بنيوية (مورفولوجية) سريعة، ثم تنتشر على إثرها على نطاق جغرافي واسع، ويتبع ذلك بعض التغيرات الطفيفة. يخبرنا هذا النموذج ببساطة أن الأشكال الوسيطة ليست غائبة لأننا لم نجدها، بل لأنها غير موجودة أصلاً!

التطور النمائي – Evolutionary Developmental Biology

منذ أن تم دمج الداروينية مع علم الوراثة في الثلاثينات، افترض الداروينيون أن الكائنات الحية مختلفة لأن لديها جينات مختلفة. ومن هنا، افترض نموذج التطور النمائي (أو ما يعرف اختصاراً بالإيفو-ديفو Evo-Devo) أنه إذا كانت الجينات تتحكم في تطور الجنين، فإن الطفرات في بعض الجينات الأساسية التي تتحكم في نمو الجنين ستقوم بتغير الجنين بنيوياً بشكل كبير، وستكون النتيجة تطور فجائي سريع. مرة أخرى، نموذج آخر للتغلب على المشكلة الأساسية، غياب التطور التدريجي.
ومع ذلك، اكتشف علماء التطور النمائي لدهشتهم أن الحيوانات المختلفة اختلافات جذرية، بنيوياً ووظيفياً، لديها جينات نمو جنيني متشابهة جداً. إن جينات النمو الجنيني الرئيسية في الثدييات والحشرات متشابهة لدرجة أن جينًا من الأولى يمكن أن يحل محل نظيره في الثانية. فإذا كانت الجينات المسؤولة عن النمو الجنيني متشابهة بشدة في الكائنات المختلفة وظيفياً، فإن الحجة الأساسية القائمة على أن الاختلاف في جينات النمو الجنيني هو ما يسبب التطور تسقط.
على سبيل المثال، يمكن للجينات اللازمة لنمو العين في جنين الفأر أن تحفز نمو العين في جنين ذبابة الفاكهة. (27)

التطور عبر الهندسة الوراثية الطبيعية – Natural Genetic Engineering

تفترض هذه النظرة التي قادها عالم الأحياء التطورية (جيمس شابيرو – James Shapiro)، ويسميها البعض بنظرية (الطريق الثالث للتطور) أو (التطور عبر التغير التكيفي) أن الكائنات الحية لديها آليات ذكية تستخدم فيها تقنيات “قص ولصق الجينوم” لمواجهة التحديات البيئية، بنفس الطريقة المستخدمة من قبل المهندسين الوراثيين البشريين في المختبر. وأن آليات الطفرات والانتخاب الطبيعي التي افترضها داروين غير صالحة على الإطلاق، إذ لابد من آليات تصميم ذكية في المخلوقات تمكنها من التكيف في الظروف البيئية المختلفة، وتمكنها من إحداث عدة تغيرات كلها متناسقة ومتزامنة.
ترفض تلك النظرية العديد مما اعتبره علماء الأحياء التطوريين مسلمات، مثل أن الجينوم معظمه مناطق خردة عديمة الفائدة، أو أن الجينات هي وحدها المسؤولة عن التغيرات في الكائنات الحية، وتقترح أن الجينوم كله يكون شبكات وظيفية معقدة قد تستعصي على الفهم في معظم الأحيان.

النظرية التطورية الموسعة – Extended Evolutionary Synthesis

نادى بذلك الإصدار الجديد من التطور عالم الأحياء التطوري (كونراد وادينجتون – Conrad Waddington) بداية من عام 1950، وأسس لها ودعى إليها فيما بعد عالمي الأحياء (ماسيمو بيلوتشي – Massimo Pigliucci) و (جيرد مولر – Gerd B. Müller).
هذا الإصدار هو خليط من التوازن المتقطع، والتطور النمائي (إيفو-ديفو)، واللاماركية (توريث الصفات المكتسبة).
مؤيدو هذا الإصدار ينكرون أن التطور قد ينشأ من الطفرات العشوائية في نسخ الحمض النووي، ويجادلون أن فروض الطفرات والانتخاب الطبيعي من شأنها أن تنتهك مبادئ شانون لنظرية المعلومات، حيث أن إضافة معلومات جديدة للجينوم لن تكون ممكنة أبداً عن طريق الطفرات.
في المقال القادم إن شاء الله نعرض للكلمة الطويلة لجيرد مولر، أحد مؤسسي النظرية التطورية الموسعة، التي تحاول الإجابة عن السؤال الأساسي .. لماذا أصبح لازماً البحث عن نموذج جديد ونظرية جديدة مختلفة عن نظرية التطور الشائعة؟!
المصدر
(22) Wells, Jonathan, The Politically Incorrect Guide to Darwinism and Intelligent Design, (P. 9). Regnery Publishing. Kindle Edition.(23) Biology Online, 2020, Evolution(24) Coyne, Jerry, 2009, Why Evolution is True, Oxford University Press, P.3 (25) Kirschner, quoted in Peter Dizikes, "Missing Links", 2005, Boston Global, October 23, 2005(26) Eldredge, N. and Gould, S.J. (1973) "Punctuated Equilibria: An Alternative to Phyletic Gradualism" in Models in Paleobiology, ed T. J. M. Schopf, Freeman, Cooper and Co, San Francisco(27) Georg Halder, Patrick Callaerts, and Walter J. Gehring, “Induction of Ectopic Eyes by Targeted Expression of the Eyeless Gene in Drosophila,” Science 267, 1995, 1788– 92.

أشرف قطب

حاصل على بكالوريوس العلوم في تخصص الكيمياء الحيوية من جامعة بنها في مصر، وماجستير العلوم في إدارة نظم المعلومات، وماجستير الإدارة في تخصص إدارة المعلومات، وماجستير العلوم في إدارة النظم الهندسية، من جامعة ليستر في بريطانيا.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى