نظرية التطور، الفكرة والنظرية
تشارلز داروين (Charles Darwin) هو عالم تاريخ طبيعي وجيولوجي بريطاني ولد في إنجلترا عام 1809 لعائلة إنجليزية علمية وتوفي في 1882.
والده هو الدكتور روبرت داروين، وكان جده “آرازموس داروين” عالماً ومؤلفاً بدوره.
صاغ داروين نظريته في التطور الحيوي في كتابه (أصل الأنواع) عام 1870 بغية تفسير ظاهرة التنوع الحيوي، وقد عبر عنها اختصاراً على أنها نظرية عن التحدر مع التعديل – descent with modification، وعبر فيها عن فكرة أن الكائنات الحية تتغير عبر الزمن ثم تتحول إلى أنواع أخرى جديدة نتيجة لتراكم مجموعة من التغيرات الصغرى عبر الزمن.
لكن داروين لم يتوقف عند عرض الظاهرة بطبيعة الحال، ولا على التفسير البسيط أن التغيرات تتراكم عبر الزمن في أنواع محددة مثل العصافير التي شاهدها في رحلته إلى جزر غالاباغوس، بل ذهب إلى أبعد من ذلك عن طريق “التعميم الاستقرائي الناقص” ووضع ثلاثة فروض أساسية، والتي كونت معًا ما يعرف بنظرية التطور الكلاسيكية أو الداروينية، هذه الفروض الثلاثة هي:
أن كل الكائنات الحية على الأرض ما هي إلا أحفاد متغيرة من أسلاف سابقة، وأن كل الكائنات الحية على الأرض قد انحدرت من سلف واحد مشترك قديم كان هو أول أشكال الحياة أو ما يعرف في كتب البيولوجيا بالسلف المشترك العام – Universal Common Ancestor عبر أعداد تفوق الحصر من التغيرات التدريجية البطيئة والأشكال الوسيطة.
تلك الفكرة التي عبر عنها داروين، وما زال يعبر عنها البيولوجيين في كتبهم على شكل “شجرة الحياة” التي تنطلق من أصل واحد ثم تتفرع إلى كل الكائنات، كما في صورة المنشور، ومن وجهة نظر التطوريين، فإن هذه الفكرة هي التفسير الوحيد للتشابه بين الكائنات سواءاً على المستوى التشريحي (المورفولوجي) أو الجزيئي أو الوظيفي (الفسيولوجي).
لكن المثير حقاً أن داروين حين ألف كتابه وأسماه (أصل الأنواع) لم يفسر كيف أتى هذا الأصل والنوع الأول – UAC إلى الحياة ولم يخبرنا حقاً كيف نشأت الحياة على الأرض في كتابه. لكنه أوضح ما يظنه في رسالة خاصة إلى صديقه المقرب “جوزيف دالتون هوكر”، بتاريخ الأول من فبراير عام 1871، حيث قال فيها:
“غالبا ما يُقال إن كل الظروف اللازمة لظهور الكائن الحي الأول متوافرة الآن، وهي ظروف يمكن أن تكون قد سادت في أي وقت من الأوقات من قبل. لكن إذا تصورنا وجود بركة صغيرة دافئة المياه، تحتوي على كل أشكال الأمونيا وأملاح الفوسفور والضوء والحرارة والكهرباء، إلى آخره، فمن شأن ذلك تكوّن مُركّب بروتيني كيمياوي، يصبح جاهزا لأن يخضع لمزيد من التغيرات الأخرى المعقدة.” (17)
هكذا كان ظن داروين، رداً على من يقول أن داروين لم يتكلم إطلاقاً عن “التطور الكيميائي العشوائي”
أن القوة القائدة لهذه التغيرات هي العملية التي أسماها داروين بالانتقاء الطبيعي – Natural Selection وهي عملية تعمل على التغيرات العشوائية غير المقصودة في الصفات المرتبطة بالكائن الحي وذريته، حيث يبقى الكائن الأكثر قدرة على التكيف مع بيئته ويورث صفاته، بينما ينقرض الكائن الأقل تكيفاً وتنقرض معه ذريته.
وقد استلهم داروين هذه الفكرة من فكرة بسيطة نراها في واقعنا، وهي فكرة “التهجين” أو “الانتقاء الصناعي” حيث كانت فكرة تهجين حيوانات المزارع -كالكلاب والأحصنة والخراف والحمام – متداولًا في وقت داروين بغية تحسين بعض الصفات البسيطة كغزارة الصوف. فاقترح داروين أن الطبيعة تعمل بنفس الشكل، وأن الكائنات ذات الصفات الأفضل تنتقيها الطبيعة للبقاء.
أن هذه العملية، التغير البطيء ثم الانتقاء، هي عملية طبيعية تماماً يمكنها أن تحصل بأسباب طبيعية بحتة دون الحاجة إلى تدخل واعي ولا توجيه. وأن ما نراه في الحقيقة من إبداع وتصميم ودقة في الوظائف ما هو في الحقيقة إلا محض وهم. أو كما عبر هو عن ذلك قائلاً:
“إن الحجة القديمة عن التصميم في الطبيعة، كما قدمها بايلي، والتي بدت لي في السابق حاسمة للغاية، تفشل الآن بعد أن تم اكتشاف قانون الانتقاء الطبيعي. يبدو أنه لم يعد هناك تصميم في تنوع الكائنات العضوية وفي فعل الانتقاء الطبيعي أكثر مما يوجد في المسارات التي تهب فيها الرياح” (18)
تلك هي الافتراضات النظرية الثلاثة التي وضعها داروين وشِكَّلت نظريته عن أصل الأنواع، وسنأتي إلى تفصيل كل فرض من هذه الفروض وشرحه ومناقشته في المقالات التالية.
لكن الجدير بالذكر هنا قبل الانتقال للتفصيل هو أن داروين نفسه قد اعتبر ما جاء به “مجرد فروض نظرية” على حد قوله، وأنه كما يقول: “من الصعب حتى أن نتخمّن بأي تحولات قد أوصلت الأنواع إلى حالتها الراهنة” (19)
بل إن داروين شكك حتى في قيمة استدلاله العقلي بناءاً على مفاهيم نظريته، واصماً نظريته بالتناقض الذاتي، فقال في رسالته إلى (وليام جراهم – William Graham) في يونيو عام 1881:
“لكن هناك هذا الشك المخيف الذي دائما ما ينتابني حول ما إذا كانت قناعات عقل الإنسان، والذي بدوره تطور من عقول كائنات أدنى، تتمتع بأي قيمة أو تستحق أدنى ثقة. هل سيثق أحد في قناعات عقل قرد؟ هذا إذا وجدت هناك أي قناعات في مثل هذا العقل؟” (20)
هذه التناقضات قد دفعت العديد من العلماء والفلاسفة إلى التصريح بتناقض داروين. فيقول مثلاً عالم الأنثروبولوجيا وفيلسوف العلم (لورين إيزيلي – Loren Eiseley):
“يُظهر الفحص الدقيق للطبعة الأخيرة من (أصل الأنواع) أنَّ هذا الكتاب قد أصبح متناقضًا نتيجة محاولة داروين مواجهة الاعتراضات التي أُطلِقت ضد نظريته ضمن صفحات متفرقة… تُظهر الإصلاحات الأخيرة التي أُجرِيت على كتاب (أصل الأنواع) درجة الهشاشة البالغة التي وصلت إليها البنية النظرية لداروين، وأدَّى إفراطه في اللجوء إلى الحلول الوسطى إلى بعضَ التناقضات الصاعقة” (21)