تشابهات بلا أسلاف
هل تحكي الجينات نفس الحكاية؟
نستكمل في هذا المقال موضوع (تشابهات بلا أسلاف) والذي تناولنا فيه مخالفة الأدلة للفروض الداروينية عن التشابه والانحدار من سلف مشترك، واليوم نستكمل بعض الأمثلة في هذا الموضوع.
تخبرنا مجموعة من الدراسات (121) و (122) أن مجموعات من الطيور المتشابهة للغاية قد تطورت بشكل مستقل، أي مرة أخرى، من دون وراثة تلك الصفات المتماثلة من أسلاف مشتركة. بل وتصف الدراسات أن العديد من أنواع الطيور المنقرضة مثل (الفورسراسيدس أو طيور الرعب – Phorusrhacidae)، وطيور (الجاسترونيس – Gastornithiformes) وطيور (مِهيرونغ أو طيور الرعد – Dromornithidae) قد تكونت عندهم جميعاً نفس الصفات، نفس شكل وحجم الجسم المماثل، نفس الأجسام العملاقة، العدو بدلاً من الطيران، الأرجل الطويلة، الرقاب الطويلة، الرؤوس الكبيرة، من غير أي روابط شجرية تطورية تربط بينها، ولا أي علاقة.
نفس هذا النمط من التضارب في التشكلات البنيوية (المورفولوجية)، نجد مثله على المستوى الجزيئي أيضاً. فنجد كائنات متشابهة جداً يفترض التطوريون أنها أتت من أسلاف مشتركة، وتختلف عن بعضها اختلافات جينية في العديد من الوظائف الحيوية. وبالمثل، نجد أنواعاً مختلفة ومتباعدة ذات تركيبات جينية متشابهة، تؤدي لوظائف متشابهة، وليس بينها أسلاف مشتركة.
أحد أشهر الأمثلة على ذلك هو التشابه بين الخفاش، والثدييات البحرية كالحيتان والدلافين في جهاز تحديد المواقع بالصدى – Echolocation System. هذا الجهاز الذي يمكن تلك الحيوانات من رصد الأشياء والفرائس عن طريق الموجات الصوتية كما هو الحال في أنظمة السونار البحرية.
تخبرنا الدراسة المنشورة عام 2013 أن هذا الجهاز المعقد موجود في الخفاش والثدييات البحرية بشكل (منفصل)، أي من غير وجود أي سلف مشترك ورثوا عنه هذا الجهاز المعقد، ومع التباعد الكبير بين الخفافيش والحيتان على الشجرة التطورية المفترضة. ليس هذا فقط، بل تخبرنا الدراسة أن هذا الجهاز الذي يدخل في تكوينه وتنظيمه العديد من الجينات، متشابه البنية الجينية في الكائنين، من دون أي أسلاف مشتركة بينهما، وتم العثور على (200) منطقة متشابهة في الجينوم بين الكائنين تدخل في تركيب جهاز الصدى (123).
يقول الباحثون المشاركون في الدراسة:
“كنا نتوقع العثور على تغييرات متطابقة فيما يقرب من اثني عشر جينًا أو نحو ذلك، لكن رؤية ما يقرب من 200 موضع متشابه هو أمر لا يصدق” (124)
لماذا الأمر بالنسبة لهم “لا يصدق”؟ لأن هذين الكائنين لا تربط بينهما أية أسلاف مشتركة، فكيف نشأ نفس الجهاز، بنفس الوظيفة، ونفس هذا العدد الكبير من الجينات، ونفس المواضع من الجينوم، من غير سلف مشترك؟
هذا مثال واضح لتكذيب الفرضية أن التشابه لابد أن يكون نتيجة الانحدار من سلف مشترك لديه هذه الصفات.
يخبرنا أيضاً العلماء التطوريون أن أجهزة الرؤية (العيون) في الكائنات قد تطورت بشكل (مستقل) أي من دون انحدارها من سلف مشترك، في شتى الممالك الأحيائية، ما بين 50 – 100 مرة، بشكل منفصل تماماً (125).
وتخبرنا دراسة أخرى أن التحاليل الجزيئية للحمض النووي، والميتوكوندريا، في الضفادع من مدغشقر والهند، على الرغم من تشابهها في الخصائص المورفولوجية والوظيفية والنمائية، أنها تطورت بشكل مستقل، وأنه لا يجمعها سلف مشترك ورثت منه هذه الصفات جميعها (126).
وتخبرنا دراسة أخرى أن أنواعاً مختلفة من الحشرات، قد طورت بشكل منفصل تماماً، القدرة على مقاومة النباتات السامة. (الصقلاب – Milkweed) هو عائلة من النباتات التي تحتوي على مواد سامة، والتي تحمي تلك النباتات من أن تأكلها الحيوانات. تلك النبات سامة لأن تلك المواد التي تنتجها تقوم بإيقاف جزيء حيوي في الحيوانات وهو المسمى (مضخة الصوديوم – ATPase)، وهو جزئ ضروري لتقلص العضلات والعديد من وظائف العصبية الأخرى.
ومع ذلك فإن بعض الحشرات، مثل (فراشة الملك – Monarch Butterfly) و (خنفساء الأوراق – Leaf Beetle) لا تتأثر بتلك المواد السامة، وتتغذى بالفعل على تلك النبات، بل إنها تقوم بتخزين هذه المواد السامة في أجسادها فتجعلها هي نفسها سامة لغيرها من الكائنات. تخبرنا الدراسات أن تسلسل الأحماض الأمينية لبروتينات تلك الحشرات المقاومة، والتي بلغ عددها (14) نوعاً مختلفاً، تلك التي تكون عندها مضخة الصوديوم ATPase متشابهة تماماً، وتختلف عن كل الكائنات الأخرى، لم تتكون في تلك الأنواع بالوراثة من سلف مشترك، ولكن بشكل مستقل تماماً (127)
وعلى الجانب الآخر، نجد وظائف متشابهة في مجموعات متقاربة جداً من الكائنات، تقوم بها مجموعات مختلفة من الجينات. توثق الدراسة الحديثة المنشورة عام 2019 اختلافات في مجموعات الجينات المسؤولة عن تمايز انقسام الخلية الجنينية الأولى (الزيجوت) في مجموعة من الأنواع المتقاربة والمتشابهة من حشرات الذباب والبعوض والعث (128)
عندما تنقسم الخلية الأولى للكائن (الزيجوت)، فإنها تتمايز إلى جهتين (جهة أمامية، ونهاية خلفية) وهذا الاتجاه هو الذي يؤثر لاحقاً على كيفية تطور الجنين. مجموعة الجينات المسؤولة عن هذا التمايز تأتي من البويضة، وتعمل كمحددات للاتجاه الأساسي للجزء الأمامي من الجنين، وهو أمر أساسي للتطور الجنيني. لكن، وعلى النقيض من التوقعات التطورية، فإن الجينات المحددة المسؤولة عن هذه الوظيفة الحيوية ليست متماثلة في الأنواع المختلفة القريبة جينياً.
تقول الدراسة:
“مع استثناءات قليلة للغاية، يكون للجنين دائماً رأس (مقدمة) و ذيل (نهاية) يتكونان في مرحلة الجنين. تختلف الجينات المشاركة في تحديد هذه الوظائف بين الأنواع، وحتى في الأنواع ذات الصلة الوثيقة، قد تستخدم مجموعات من الجينات المختلفة لتؤدي نفس الدور”
تصف الدراسة هذه النتائج في اختلافات الجينات بأنها “غير متوقعة”، لكن ما لا يفسره المؤلفون هو لماذا هذه النتائج “غير متوقعة”. وفي الحقيقة، فإن فهم هذا الأمر هو شيء بالغ الأهمية من أجل فهم الدراسة ونتائجها. هذا يعني ببساطة أن نظرية التطور تتنبأ بعكس تلك النتائج. تتنبأ النظرية أنه في الأنواع المتقاربة جداً، يجب أن تكون الآلات الجزيئية الأساسية ومجموعات الجينات التي تقوم بوظائف متشابهة، متماثلة في الأنواع المتقاربة. هناك مشكلة واحدة فقط، نحن نعرف الآن أن هذا غير صحيح! وأن هذه الدراسة هي مثال آخر على فشل التوقعات التطورية.