استبدال نظرية التطور
ذكرنا في المقال السابق كيف تم تحديث نظرية التطور لتتماشى مع اكتشاف شفرة الجينوم وقوانين الوراثة، لتفترض أن التطور يعمل بشكل أساسي عن طريق الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي. وذكرنا أيضاً أنه قد ظهرت العديد من النماذج التطورية الأخرى، لسبب أساسي مهم، ألا وهو أن نظرية التطور بشكلها الحالي لا تتناسب مع المكتشفات العلمية الحديثة، وسنجد ذلك واضحاً في مؤتمرين تطوريين شهيرين.
الأول هو مؤتمر ألتنبيرج 16، وهو مؤتمر عقد في النمسا عام 2008، لمجموعة من أكبر علماء البيولوجيا مثل لين مارجوليس، فرانسيسكو أيالا، ماسيمو بيتالي، جيري فودر، وآخرين.
تقول مجموعة العلماء في افتتاحية المؤتمر:
“تدرك مجموعة ألتنبيرج 16 أن نظرية التطور التي يقبلها معظم علماء الأحياء، والتي يتم تدريسها في الفصول الدراسية اليوم، غير كافية لتفسير وجودنا”
وأعلنت لين مارجوليس في نفس المؤتمر، هي وفرانسيسكو أيالا إن النظرية الداروينية قد ماتت، كما تقول:
“في ذلك الاجتماع، اتفق معي أيالا عندما ذكرت أن العقيدة الداروينية قد ماتت. لقد كان (فرانسيسكو أيالا) ممارسًا للداروينية الحديثة، لكن التقدم في علم الوراثة الجزيئي، وعلوم البيئة، والكيمياء الحيوية، وغيرها من المجالات دفعه إلى الموافقة على أن الداروينية الحديثة قد ماتت الآن” (28)
ونجد مثل ذلك على لسان (جيرد مولر) في كلمته التي ألقاها أمام الجمعية الملكية للبيولوجيا في المؤتمر الذي عقد عام 2016 تحت عنوان (لماذا أصبح ضرورياً التعديل في النظرية التركيبية التطورية؟) .. وجيرد مولر أو أحد المؤسسين لما يسمى “النظرية التطورية الموسعة”. مؤيدو هذا الإصدار التطوري ينكرون أن التطور قد ينشأ من الطفرات العشوائية في نسخ الحمض النووي، ويجادلون أن فروض الطفرات والانتخاب الطبيعي من شأنها أن تنتهك مبادئ شانون للمعلومات، حيث إن إضافة معلومات جديدة للجينوم لن تكون ممكنة أبداً عن طريق الطفرات.
توضح كلمة مولر في المؤتمر العديد من المعارضات القائمة للداروينية، والداروينية الحديثة، ولماذا ظهرت العديد من الإصدارات التطورية المختلفة التي ذكرناها في محاولة لإنقاذ التطور. وهي كلمة مهمة للغاية وقد رأيت أن أنقل معظمها هنا لأنها ملخص جيد لكمية المشاكل التي تواجه نظرية التطور الحالية.
تعالوا لنرى ماذا يقول مولر في تلك الورقة الافتتاحية
“إن هناك أعداداً متزايدة من الدراسات التي تدعو إلى إجراء تنقيح كبير أو حتى استبدال كامل لنظرية التطور القياسية، مما يشير إلى أن هذا التوجه لا يمكن رفضه باعتباره وجهة نظر أقلية، بل هو شعور واسع الانتشار بين العلماء والفلاسفة على حد سواء.
في الواقع، فقد ظهرت على مدى السنوات القليلة الماضية أعداداً متزايدة من التحديات للنموذج الكلاسيكي للتطور في مجالات عدة، مثل التطور النمائي، والوراثة فوق الجينية، وعلم وظائف الأعضاء، وعلم الجينوم، وعلوم البيئة، وعلم الوراثة السكانية، والتطور التنظيمي، والنظم الشبكية، ودراسات ظهور الصفات المستحدثة، وعلم الأحياء السلوكي، وعلم الأحياء المجهرية، وبيولوجيا النظم، ومدعومة أيضاً بالكثير من الحجج من العلوم الثقافية والاجتماعية، فضلاً عن المعالجات الفلسفية.
لا شيء من هذه الادعاءات غير علمي! وكل هذه الادعاءات مؤسسة حول المبادئ التطورية وكلها مدعومة بأدلة تجريبية كثيرة.
غير أنه بعض الأحيان، تتم مواجهة هذه التحديات بنوع من (العداء العقائدي)، الذي يحاول مهاجمة وتفكيك أي انتقاد للمعبد النظري التقليدي باعتباره طرحاً هزلياً، وفي كثير من الأحيان يدافع أنصار المفهوم التقليدي بأن كل شيء يسير على ما يرام في النظرية التطورية الحالية التي يرون أنها تسير جنباً إلى جنب مع الإطار المنهجي والتجريبي الذي يحظى باحترامهم في البيولوجيا التطورية بشكلها الحالي.
ولكن الحقيقة التي تم تأكيدها مراراً وتكراراً أن الآليات التطورية التي ذكرت في بعض الكتابات السابقة أو الحالية لا تعني بالضرورة أن يتم وضع الهيكل الرسمي للنظرية التطورية ليناسب تلك الأفكار فقط.
وهناك نسخة كذلك أكثر تعنتاً من هذه – وهي استخدام حجة (لقد تم ذكر ذلك من قبل) والتي تستخدم لتحويل أي تحديات تجاه الرؤية القياسية إلى جدل لا ينتهي حول (التطور الصغروي ضد التطور الكبروي). فبينما يعتبر التطور الصغروي هو التغير المستمر في ترددات الأليل داخل الأنواع أو السكان (الأليل هو نسخة الجين)، فإن مفهوم التطور الكبروي يظل غير محدد ويقوم بدمج مسألة الانتواع مع مسألة أصل الشعب الرئيسية مع ما يسمى بالتغيرات الظاهرية الرئيسية أو نشوء البنى الجسمية الأساسية.
وعادة ما ينقلب الاعتراف الصريح بمشكلة أصل السمات الظاهرية سريعاً إلى مناقشة حجج الوراثة السكانية حول الانتواع، وغالبا ما تكون تلك المناقشة مرتبطة بإقحام مفهوم التوازن النقطي وذلك من أجل الوصول في النهاية إلى إلغاء أية ضرورة لتغيير النظرية.
وبهذا يتم تجاوز مشكلة التعقيد البنيوي بشكل أنيق. وفي النهاية، فلا مفر لهؤلاء من محاولة التوصل إلى استنتاج مفاده أن آليات التطور الصغروي تتسق مع التطور الكبروي، على الرغم من أن هذه الآليات ليس لها علاقة تذكر بتطوير الهيكل البنائي للنظرية وتنبؤاتها.
القضية الحقيقية هنا هي أن التطور الجيني وحده غير كافٍ لإعطاء تفسير مناسب لظهور التعقيد البنيوي في الكائنات، ناهيك عن جعله جزءاً من شيء غامض يطلق عليه “التطور الكبروي”.
ومن ثم، فإن التمييز بين التطور الصغروي والتطور الكبروي لن يؤدي إلا إلى محاولة إخفاء المسائل الهامة التي تنشأ عن التحديات الراهنة التي تواجه النظرية التطورية القياسية.
كما يمكننا أن نلاحظ من المبادئ المذكورة، فإن نظرية التطور بشكلها الحالي موجهة في الغالب نحو تفسيرات جينية للتغير، وباستثناء بعض التعديلات الدلالية الطفيفة، لم يتغير هذا على مدى العقود السبعة أو الثمانية الماضية. ومهما كانت الضرورة تدفع إلى مراعاة عوامل أخرى غير تلك المقبولة تقليدياً، فإننا نجد أن النظرية كما ترد في الدراسات الحالية تركز على مجموعة محدودة من التفسيرات التطورية.
تعمل النظرية بشكل جيد (فقط) فيما يتعلق بالقضايا التي تركز عليها، موفرة تنبؤات قابلة للاختبار وقابلة للتأكد في نطاق الاختلاف الجيني في الأجيال الحالية، وفي نطاق الاختلاف التدريجي والتكيفي في الصفات الظاهرية وفي بعض الخصائص الجينية للأنواع. وإذا توقفت النظرية عن التفسير هنا (يقصد في نطاق دراسة التكيفات في الأنواع الحالية)، فلن يكون هناك خلاف.
غير أنه قد أصبح من المعتاد في البيولوجيا التطورية أن تقوم بأخذ مفاهيم الوراثة كتفسير مميز يصلح لتفسير جميع الظواهر التطورية. هذا الاتجاه يستبعد حقيقة أنه من ناحية لا يمكن تأكيد كل تنبؤات الوراثة السكانية في جميع الظروف، ومن ناحية أخرى يستبعد حقيقة أنه لا تزال هناك ثروة من الظواهر التطورية التي يتم استبعادها!
فعلى سبيل المثال، تتجنب النظرية إلى حد كبير مسألة كيفية نشوء النظم المعقدة للبنى الحيوية أو وظائف الأعضاء أو تطور السلوك – الذي يصفه الاختلاف التطوري -، كما أن النظرية لا توفر وسائل كافية لاعتبار العوامل التي ليست جزءا من الإطار الجيني للسكان، مثل التنموية، والنظم النظرية، والتأثيرات البيئية أو الثقافية”
انتهى كلام (مولر)، وهو ليس في حاجة إلى مزيد شرح لتوضيح كمية الفجوات المعرفية والخلل والقصور في البناء النظري لنظرية التطور، والتعصب الزائد لها دون أي أدلة أو ردود حقيقية.
مقالنا القادم إن شاء الله دسم، وفيه تفصيل لرأي بوبر حول نظرية التطور .. انتظرونا ….
وحتى المقال القادم .. لا تنسوا مشاركة المقالات