تشابهات بلا أسلاف
استعرضنا في المقالات السابقة موضوع الانقطاعات السابقة في السجل الأحفوري، وعدم مطابقة لا السجل الأحفوري ولا البيانات الجزيئية لتوقعات داروين حول التطور التدريجي والاتصال بين أشكال الحياة، وفشل مشروع “شجرة الحياة”، ونبدأ من اليوم إن شاء الله في استعراض نقاط أخرى تثبت فشل فرضية داروين الأساسية عن السلف المشترك العام.
بنى داروين، والتطوريون من بعده، فرضيتهم الأساسية عن الانحدار من سلف مشترك على أساس أن التشابه بين الكائنات يشير إلى انحدارهم من سلف مشترك، وينص داروين على هذا بوضوح في أصل الأنواع فيقول:
“لقد رأينا أن أفراد نفس الرتبة، بغض النظر عن عاداتهم الحياتية، يماثلون بعضهم البعض في خططهم التنظيمية العامة، هذا التماثل كثيرًا ما يعبر عنه بمصطلح (وحدة النمط)، أو بأن نقول أن الأعضاء العديدة والأفراد المختلفون ضمن نفس الرتبة متماثلون، هذا الموضوع بأسره متضمن في المصطلح العام (مورفولوجيا) أو (علم التشكل)، والذي يعد واحدًا من أكثر أقسام التاريخ الطبيعي إثارة للاهتمام، بل يمكن القول بأنه روحه وجوهره.
وما الذي يمكنه أن يثير فضولنا أكثر من كون يد الإنسان المهيئة للإمساك بالأشياء، ويد الخلد المهيئة للحفر، وساق الحصان، ومجداف السلحفاة وجناح الخفاش، قد بنيت جميعها على نفس النمط، وتتضمن عظامًا متشابهة في نفس الأماكن النسبية؟ يمكننا أن نسمي هذا بتماثل النمط، ورغم بعدنا عن تفسير هذه الظاهرة، ولكن ألا يشير هذا بقوة إلى وجود علاقة وراثة حقيقية قادمة من سلف مشترك؟” (107)
وتضع الموسوعة البريطانية التماثل ضمن الأدلة التي ترى أنها تثبت التحدر من سلف مشترك فتقول: “يجب التأكيد على أن داروين نفسه لم يدّعِ أنه قدَّم الدليل على التطور أو أصل الأنواع، لكنه زعم أنه لو كان التطور قد حدث فعلًا، فإن الكثير من الظواهر التي لا يمكن تفسيرها في ضوء آخر سنجد لها تفسيرًا مباشرًا، ولهذا كانت الأدلة على التطور غير مباشرة… يعتمد الدليل غير المباشر للتطور بالأساس على التشابه الهائل الموجود في كائنات مختلفة.. ويُمكن أن يفسر التشابه في المخطط بسهولة لو أن جميع الكائنات نشأت وارتقت من سلف مشترك، مع وجود اختلافات بينها بسبب حدوث التطور، وعندئذ تُوصف البُنَى التي تكونت بهذه الطريقة بمصطلح homology أو المماثلة” (108)
هذه الفكرة وضعها داروين ويتبعها أكثر التطوريون على اختلاف اتجاهاتهم، وهي جزء أساسي من فرضية التحدر من سلف مشترك. ويجب أن نلفت النظر هنا إلى أن هذه الفكرة نفسها قائمة على الاستدلال الدائري، بمعنى أن السلف المشترك كان فرضية عند تشارلز داروين، والتشابه البنيوي هو الدليل عليها. أما عند أتباع داروين اللاحقين، فقد تم ترسيخ فكرة صحة الفرضية بشكل مستقل وصار التشابه نتيجةً لها، والمشكلة الآن أنه لا يمكن استخدام التشابه البنيوي كدليل على التطور إلا باستخدام الاستدلال الدائري، فيصبح الاستدلال كالآتي:
“الأصل المشترك يفسر التماثل، والتماثل يفسر الأصل المشترك”!
لكن بعيداً عن استباق الأحكام، هل أيدت الأدلة أن التشابه هو بلا شك نتيجة التحدر من سلف مشترك أصلاً؟ الإجابة هي لا، لقد كذبت الأدلة تلك الفرضية أيضاً. وسنستعرض في هذا المقال ومجموعة المقالات القادمة عدة أمثلة على ذلك.
تتشابه العديد من الكائنات في مجموعتين مختلفتين من الثدييات، هما الثدييات المشيمية التي ينشأ الجنين فيها داخل الرحم ويتغذى عن طريق المشيمة، والثدييات الجرابية التي تتميز بفترة حمل قصيرة، يعقبها خروج مولود صغير غير مكتمل النمو، يتحسس طريقه إلى جراب بطني يتكون من طبقة جلدية إضافية، تغطي المنطقة السفلية من البطن. ومن داخل هذا الجراب، يواصل فترة نموه وتطوره.
سنجد مثلاً الذئب الأسترالي الجرابي يتشابه تشريحياً جداً مع نظيره الذئب الرمادي المشيمي، لكن يخبرنا التطوريون أن الذئب الرمادي المشيمي هو أقرب تطورياً للفيل والأرنب والإنسان، من الذئب الجرابي المماثل له في الشكل والتشريح.
وأن الذئب الجرابي هو الآخر أكثر قرابة للكنغر والكوالا والسنجاب الأسترالي الطائر، عن مدى قرابته للذئب الرمادي التوأم التشريحي له. وذلك وفقا لما رسمته شجرة التطور حين افترضت انفصالا بين أسلاف الجرابيات والمشيميات في بداية نشوء الثدييات، منذ ما يقرب من 120 – 160 مليون سنة مضت. (109)
نفس المشكلة نجدها في التشابه بين السنجاب الطائر المشيمي، المتواجد في أمريكا الشمالية، والسنجاب الجرابي الطائر، الذي يعيش في استراليا. كلا الكائنين متشابهان بدرجة تثير الدهشة، فكلاهما بنفس الحجم، والشكل، والبنية الظاهرية والتشريحية، وكلاهما يمتلك نفس آلية الطيران الشراعي للتنقل بين الأشجار عن طريق الزوائد الجلدية الشبيهة بالشراع، رغم عدم وجود أي سلف مشترك بينهما ورثا منه هذه الصفات المتماثلة.
وهكذا في العديد من التشابهات الأخرى بين الثدييات المشيمية والجرابية، كالتشابه بين الخلد المشيمي (Mole) والخلد الجرابي (Marsupial Mole)، والليمور المشيمي (Lemur) والأبسوم المرقط الجرابي (Spotted Cuscus)، وقندس الأرض (Groundhog) المشيمي والومبت (Wombat) الجرابي، وغيرها. كل هذه الكائنات من مجموعتين مختلفتين من الثدييات، وليس بين أحدها والآخر سلف مشترك ورثت منه هذه الصفات المشتركة. كما يظهر في الصورة أدناه (110)
تشير العديد من الدراسات كذلك إلى أن السمات التشريحية المتشابهة التي يستدل بها التطوريون، كاشتراك رباعيات الأرجل في نمط عظام الأطراف الأمامية، قد أصبحت دليلاً ضد الانحدار من سلف مشترك بدلاً من أن تكون دليلاً على صحته.
فالأطراف الأمامية رغم أنها متشابهة كثيراً في التشريح وما يتصل بها من عضلات، إلا أنها تنمو من أجزاء مختلفة من أجساد أنواع الفقاريات المختلفة، تنمو الأطراف الأمامية في سمندر الماء مثلاً من أقسام الجذع رقم (2 و3 و4 و5)، وفي السحلية من الأجزاء رقم (6 و7 و8 و9)، وفي الإنسان من الأجزاء رقم (13 و14 و15 و16 و17 و18) (111)
والإشكال الآخر هو أن الأطراف الأمامية والخلفية لرباعيات الأرجل يُفتَرض أنها قد تطورت من الزعانف الأمامية والخلفية للأسماك العظمية حسب السيناريو التطوري، لكن زعانف الأسماك العظمية – مثل سمكة (السيلاكانث – Coelacanth) ليس لها نفس نمط العظام الموجود في أطراف رباعيات الأرجل، والعضلات الموجودة فيها لا تشبه الأطراف الأمامية والخلفية لرباعيات الأرجل كما تقول الدراسة المنشورة عام 2013 والتي تصف تطور الأطراف الأمامية والخلفية بأنها لغز (Enigma) (112)
افترض التطوريون للخروج من المأزق أن هناك عملية استنساخ للأطراف حدثت في الماضي السحيق وأعطوا هذه الفرضية الجديدة اسماً جديداً لامعاً Serial Homology، وهي أيضاً فرضية جديدة بلا دليل كعادة الفروض التطورية. تخبرنا نفس الدراسة أعلاه أن هذا اللغز التطوري المعضل يسبب “ارتباكاً” في المفاهيم عند التطوريين فتقول: “في رأينا، فإن هذا الارتباك قد أدى، خاصة في العقود الماضية، إلى إهمال سؤال أساسي ومعضل: لماذا الهياكل العظمية وخاصة عضلات الأطراف الأمامية والخلفية تشبه بعضها البعض بشكل مدهش؟”
هذه المعضلة لها تبعات كثيرة وخطيرة على نظرية التطور، لأنها تثبت أن التشابهات التي يتم رصدها لا تستقيم في الكثير من الأحيان مع التوقعات التطورية، لدرجة أن هؤلاء العلماء يُذَكِرون أصدقاءهم من العلماء التطوريين أن نظرية التطور قد تم انتقادها بقسوة بناءاً علي تلك الحقيقة التي أهملوها ولم يعيروها اهتماماً. بل يعترفون أنه من المدهش أن بعض معارضي التطور ممن أسموهم “الخلقويون” يَعُونَ ويدركون هذه الأسئلة التطورية أفضل من الكثير من التطوريين فتقول الدراسة:
“هذا الارتباك وخاصة الفشل في إجابة هذا السؤال وتفسير التشابهات المدهشة بطريقة علمية مقنعة خلق الفرصة للتخمينات ولنقد التطور بطريقة قاسية من الخلقويين الذين يحتجون بأن هذا مثال واضح على معضلة تطورية غير قابلة للحل. هؤلاء الخلقويون يحتجون أنه من غير المقترح في كتابات التطوريين أن الأطراف الأمامية والخلفية هي سليلة “طرف مشترك” أي أنه لم يكن هناك أبداً كائن رباعي الأرجل أو سلف لرباعيات الأرجل يمتلك أربعة أرجل متطابقة. إذاً حسب وجهة نظرهم، فإنه من المستحيل شرح لماذا الأطراف الأمامية والخلفية متشابهة في سياق تطوري (دانتون، 1985).
لا أحد من مؤلفي هذه الدراسة يعتبر نفسه خلقوياً، لكننا نظن أنه من المدهش ومن المهم لهذه الدراسة أن نشير إلى أن بعض الخلقويين هم على قدر أعلى من الوعي بهذه الأسئلة التطورية الجوهرية من الكثير من التطوريين وعلماء بيولوجيا التطور الجنيني” (113).
كما رأينا، فالتطوريين يعترفون هنا بتلك المشاكل والمعضلات، لكن وعلى الرغم من ذلك، لا يجرؤ أحدهم على البوح بالحقيقة .. أن الأدلة حين تكذب الفرضية على طول الخط، فإن هذا يعني خطأ الفرضية من أساسها كما تقتضي أسس الممارسة العلمية والمنهج العلمي!