بحث فرضية السلف المشترك
“إن الأحياء بمخططاتها الجسمية التي يمكن أن نميزها على شكل الشعب الرئيسية تظهر بشكل فجائي في السجل الحفري، والعديد منها يظهر في مدد جيولوجية قصيرة. إن السجل الحفري متناسق مع حقيقة أن هذه البنى الجسمية جميعاً قد ظهرت بنهاية تلك الحقبة (الكامبرية) ولكن لا يمكن تتبع ولا واحدة منها إلى أي أشكال وسيطة لأية أسلاف سابقة” – عالم الأحياء التطوري جايمس فالانتاين في كتابه “أصل الشعب الرئيسية”.
بعد أن تناولنا في سلسلة المقالات السابقة بعض المفاهيم الأساسية في فلسفة العلوم، واستعراض الاتجاهات المنهجية العلمية المختلفة، وعرضنا لتاريخ نظرية التطور وفروضها الأساسية .. نبدأ من هذه الحلقة إن شاء الله في بحث الفروض الأساسية لنظرية التطور، بداية من الفرضية الأهم (فرضية السلف المشترك)، تبعا لمدرسة التجريب، ومدرسة كارل بوبر القائمة على قابلية التكذيب.
ملخص الفرضية
افترض داروين أن كل الكائنات الحية على اختلاف أنواعها ما هي إلا أحفاد من أسلاف سابقة نشأت عن طريق تغيرات تراكمية طفيفة، وأن كل الكائنات الحية على الأرض قد انحدرت من سلف واحد مشترك قديم كان هو أول أشكال الحياة أو ما يعرف في كتب البيولوجيا بالسلف المشترك العام – Universal Common Ancestor عبر أعداد تفوق الحصر من التغيرات التدريجية البطيئة والأشكال الوسيطة. تلك الفكرة التي عبر عنها داروين، وما زال يعبر عنها البيولوجيين في كتبهم على شكل “شجرة الحياة” التي تنطلق من أصل واحد ثم تتفرع إلى كل الكائنات.
بنى داروين فرضيته هذه بناءاً على مشاهداته التي دونها خلال رحلته على متن السفينة “بيغل” والتي من أهمها تلك المشاهدات التي دونها حول تنوع الكائنات على مجموعة جزر “غالاباغوس” إذ يقول عن تلك المشاهدات: “العديد من الجزر تمتلك أنواعها الخاصة من السلاحف، وطيور السمنة المقلّدة، وعصافير الدوري، ونباتات عديدة، وكون هذه الأنواع تمتلك العادات العامة ذاتها وتشغل مواقعًا متشابهة، ومن الواضح أنها تملأ الأماكن ذاتها في الاقتصاد الطبيعي للأرخبيل، وذلك هو ما يصيبني بالدهشة” (38)
أحد أهم تلك المشاهدات هو ما وثقه داروين حول تنوع أشكال وأحجام العصافير المعروفة بالشرشوريات – Finches على جزر غالاباغوس، والمعروفة الآن باسم (عصافير داروين Darwin’s Finches). لاحظ داروين وجود أربعة عشر نوعًا من تلك العصافير على مجموعة الجزر. تلك العصافير تختلف عن بعضها البعض من ناحية الحجم، والريش، وشكل المنقار، وطبيعة الغذاء. يختلف شكل منقار هذه العصافير على الرغم من انتمائها لنفس التصنيف البيولوجي تبعاً لاختلاف نوع التغذية والسلوك العام. ومن هنا، افترض داروين أن هذه العصافير قد نشأت جميعاً من سلف واحد مشترك عن طريق مجموعة من التغيرات التدريجية البسيطة لتكون أكثر تكيفاً مع بيئتها وأنواع الغذاء المختلفة المتاحة.
بنى داروين أيضاً فرضيته الأساسية بناءاً على مشاهداته لعمليات التهجين الصناعي والتي كانت شائعة في أوروبا في وقته، كتهجين الكلاب، والأغنام، والأبقار، بغية تحسين بعض صفاتها، كإنتاج الألبان، أو غزارة الصوف. افترض داروين أن الطبيعة تعمل بنفس الشكل وأن الأفراد داخل النوع الواحد تتراكم فيها تلك التغيرات الطفيفة في مدد زمنية طويلة، مما يؤدي إلى ظهور أنواع جديدة من أسلاف سابقة تختلف عنها اختلافاً جذرياً في البناء الظاهري (المورفولوجي) والوظيفي (الفسيولوجي).
في العقود التي تلت داروين، حاول العديد من التطوريين التأسيس لهذه الفكرة، عبر ضرب عدة أمثلة لنشوء أنواع جديدة من أنواع سالفة لها، إما عن طريق تتبع ما استجد اكتشافه من حفريات في السجل الأحفوري، أو عن طريق التجارب المشاهدة لاختلاف بعض الصفات في الأنواع. ونحن في هذا الكتاب لسنا في الحقيقة في معرض تفنيد هذه الأدلة والرد عليها واحداً واحداً، فإن العديد من الباحثين في مجال البيولوجيا وعلم الأحفوريات قد أفردوا كتبهم لذلك، لكن نهجنا هنا هو أن نبحث ما إذا كانت الفرضية الأساسية نفسها موافقة للمنهج العلمي أم لا. وسنعرض هنا فقط بعض الأمثلة التي يطرحها التطوريون باختصار بغية توضيح منهجهم في الاستدلال.
أمثلة من السجل الأحفوري:
يعرض التطوريون بعض الأمثلة من السجل الأحفوري مما زعموا أنها “سلاسل واضحة” لتطور الكائنات من أسلاف مشتركة، على سبيل المثال: تطور الحيتان من مجموعة من الأسلاف البرية، تطور الإنسان من القردة العليا (Apes)، تطور الطيور من الزواحف (الديناصورات Theropods، أو العظاءات والسحالي Thecodonts على خلاف بين مجموعتين من التطوريين). تستند هذه الأمثلة جميعاً إلى مبدأ أساسي واحد، أن التشابهات التشريحية بين كائنين هي “بالضرورة” نتاج انحدارهما من سلف مشترك، ذلك المبدأ الذي يطلق عليه بالإنجليزية Homology.
أمثلة من تجارب مشاهدة على الانتواع:
هنا يعرض التطوريون أمثلة لتغيرات طفيفة للغاية تحدث في حيز النوع الواحد، أو العائلة الواحدة، مثل تلك التغيرات التي تحدث في البكتيريا فتكسبها بعض المقاومة للمضادات الحيوية، أو تغير لون أجنحة حشرة العث، أو تشوه أجنحة ذباب الفاكهة، أو التغير في حجم بعوض أنفاق لندن.
تلك الأمثلة وغيرها أمثلة مشاهدة وملحوظة، لكنها في الواقع لا تجاوز حيز النوع الواحد، وهي في الغالب تغيرات هدم تنقص من المعلومات الجينية، وتشوه بعض الصفات التشريحية والوظيفية، ولا تضيف أي معلومات جديدة إلى جينوم تلك الكائنات.
أمثلة من بعض الأدلة الجزيئية:
كالتشابهات الجينية بين الإنسان والشمبانزي، أو التشابه في موضع بعض الكروموسومات كما في الفرضية الشهيرة عن اندماج كروموسومين في القردة العليا لإنشاء كروموسوم 2 في الإنسان، أو التشابهات الجينية بين بعض أنواع الإسفنج، أو وجود تسلسلات معينة في جينوم بعض الكائنات المتشابهة تشريحياً، وغيرها. مرة أخرى، تقوم هذه الحجة في الأساس على افتراض أن التشابه الجيني، كما هو الحال في التشابه الأحفوري، هو بالضرورة نتاج الانحدار من سلف مشترك ما، سواءاً عرفنا هذا السلف المشترك أو لم نعرفه.
وقد أجادت العديد من الكتب والدراسات في الرد على هذه الأدلة والاستدلالات بالتفصيل وبينت أن معظم هذه الاستدلالات غير صحيحة أو غير سالمة من الاعتراضات، وأن معظمها يسبقه الانحياز التأكيدي لإثبات وجهة النظر التطورية من غير أي أدلة علمية حقيقية في محل الخلاف. لكن كما قلت، نحن في هذه المقالات ليس هدفنا اجترار تلك الردود وتكرارها، بل هدفنا هو تقييم الفرضية نفسها في موافقتها للمنهج العلمي.
بل إننا نزعم أن هدف التطوريين في العادة هو جر المخالفين لهم إلى الرد على تلك الأمثلة المنفردة ومحاولة تفنيدها في محاولة للفت الانتباه عن المشكلة الأساسية في الفرضية نفسها. فالمقالات والكتب التطورية، على اختلاف مشاربها واتجاهاتها، تشبه في غالبها عرض “ساحر السيرك” الذي يحاول لفت انتباه المشاهدين إلى الأرنب الذي يخرجه من القبعة بسرعة، ليقوم بتشتيتهم بعيداً عن أصل المسألة والخدعة الموجودة في اللعبة.
لمراجعة الردود على هذه الأدلة التطورية وغيرها، يمكن على سبيل المثال لا الحصر مراجعة الكتب التالية والتي تعرض النقد العلمي على تلك الأدلة من واقع الدراسات العلمية المراجعة والمنشورة:
₋ الانتواع الخادع، 2016، من تأليف كيسي لسكين
₋ أيقونات التطور، 2016، من تأليف جوناثان ويلز
₋ الملحمة المستحيلة، 2016، من تأليف أحمد يحيى
₋ العلم وأصل الإنسان، 2016، من تأليف آن جوجر، دوكلاس أكس، وكيسي لسكين
₋ العلم الزومبي، 2019، من تأليف جوناثان ويلز
وهذه الكتب متاحة كلها بالترجمة العربية من إصدار مركز براهين للأبحاث والدراسات.
بحث الفرضية
كما ذكرنا آنفاً، فإن فرضية داروين الأساسية قد قامت على استقراء مبدأ التشابه Homology بين الكائنات، وهو بالطبع في هذه الحالة “استقراء ناقص” أي أنه استقراء محدود لحالات معينة في ظروف معينة، وصولاً إلى تعميم استقرائي بهذا الشكل:
بعض الكائنات بينها تشابهات.
بعض الكائنات المتشابهة يبدو أنها انحدرت من أسلاف مشتركة بتعديلات طفيفة.
إذاً، كل الكائنات قد انحدرت من أسلاف مشتركة سابقة بتراكم التعديلات الطفيفة.
هنا تكمن أصل المشكلة، أن فرضية داروين بهذا الشكل هي غير علمية في حد ذاتها!
بحث الفرضية تبعاً لمدرسة مبدأ الاستقراء
تبعاً لتلك المدرسة التجريبية، فإن هذه الفرضية الأساسية لداروين غير قابلة للاختبار Untestable، وغير قابلة للتحقق Unverifiable لأنها لا تتعلق بمسألة يمكن رصدها في المستقبل لتأكيد الفرضية تجريبياً ومن ثم تأكيد صحة التعميم الاستقرائي، بل تتعلق بمجموعة من الأحداث الماضية التي لا يمكن رصدها، ولا اختبارها، ولا التحقق منها، ولا إعادة تجربتها.
بمعنى آخر، حتى لو ثبت لدينا بيقين أن بعض الأنواع الفرعية sub-species قد تحورت من أسلاف سابقة بآلية ما، كما هو الحال مثلاً في مشاهدات داروين مع عصافير غالاباغوس، أو حتى أن هناك أنواعاً جديدة بالكلية أو عائلات جديدة نشأت من أنواع سابقة، كما يفترض التطوريون في تطور الحيتان من ثدييات برية مثلاً، فإن هذا لا يعني بالضرورة صحة تعميم الاستقراء على كل الكائنات في الحاضر والماضي والمستقبل. بل إن اليقين غير متوفر على الإطلاق في تلك الأمثلة الاستقرائية عن السلاسل التطورية التي يطرحها التطوريون كما أسلفنا سابقاً.
وقد انتبه داروين نفسه إلى تلك المعضلة وذكرها في كتابه (أصل الأنواع) قائلاً:
“من الصعب حتى أن نخمّن بأية تحولات قد أوصلت الأنواع إلى حالتها الراهنة” (39)
وقد شرح داروين بنفسه أن تأكيد هذه الفرضية سيحتاج إلى العثور على أعداد “غير محدودة” من الأشكال الوسيطة في السجل الأحفوري بين كل أنواع الكائنات والممالك والشعب والعائلات المختلفة وصولاً إلى كل أشكال الحياة الحالية، وهو كما سنبين لاحقاً، غائب تماماً عن المشهد.
ولذلك، فمشكلة الاستقراء تواجه هذه الفرضية بقوة. وحتى يومنا هذا، فإن الأدلة غائبة تماماً عن التحقق من تلك الفرضية. تقول عالمة الأحياء التطورية لين مارغوليس:
“لم يوجد إلى الآن أي أثر لنشوء أنواع جديدة، سواءاً في غالاباغوس البعيدة، أو في أقفاص مختبرات ذبابة الفاكهة، أو في الرواسب المزدحمة عند علماء الأحفوريات.. ولا زال مسدس الجريمة التطورية المفعم برائحة البارود مفقوداً” (40)
ويقول عالما الأحياء البريطانيين (ماي وان Mae-Wan وبيتر سوندرز Peter Saunders):
“لقد مضى الآن حوالي نصف قرن منذ أن تمت صياغة التركيبية الحديثة للتطور وقد تم إجراء مجموعة كبيرة من الأبحاث.. ورغم ذلك، فإن نجاحات النظرية محصورة في التطور الصغروي – مثل التغير التكيفي في التلون عند العث – بينما وبشكل ملحوظ، ليس لديها سوى القليل لتقوله عن التساؤلات المهمة بشكل أكبر – على سبيل المثال – كيف نشأ العث أصلاً” (41)
بل ويصرح أحد أشهر المروجين للتطور، وهو التطوري (جيري كوين) تصريحاً مثيراً للدهشة، فيقول:
“نحن نستنتج، بشكل غير متوقع، أن الأدلة الداعمة لوجهة نظر الداروينية الحديثة ضعيفة جداً: إن أسسها النظرية، والأدلة التجريبية التي تدعمها ضعيفة للغاية” (42)
ويقول التطوري وعالم الأحافير الشهير (ستيفن جولد – Stephen Gould):
“المحبط في السجل الأحفوري أنه ليس لدينا أية أدلة تجريبية للاتجاهات المطردة في تطور معظم التغيرات المورفولوجية المعقدة”(43)
ويقول أيضاً: “إن البيولوجيا التطورية تمت إعاقتها بشدة عن طريق هذا النمط من الافتراضات التكهنية، تلك التكهنات التي تقوم بتسجيل بعض السمات التشريحية والبيئية ومن ثم تحاول بناء التفسيرات التاريخية أو التكيفية عليها، مثل لماذا هذه العظام شكلها هكذا أو لماذا عاش هذا المخلوق هنا؟
تلك التكهنات تسمى إحساناً من البعض بالـسيناريوهات، لكنها عادة ما تسمى بازدراء، وعن حق، قصص وحكايات، أو مجرد قصص طفولية في الحقيقة باعتمادها على الافتراض الخاطئ بأن كل قطعة موجودة لغرض. العلماء يعرفون أن هذه القصص هي مجرد قصص للأسف، يتم عرضها في المقالات العلمية ومن ثم تؤخذ على محمل الجد حرفياً، ثم تصبح هذه القصص حقائق وتدخل إلى المقالات العلمية المشهورة”(44)
يخبرنا أيضاً عالم الأحياء التطوري، وأحد كبار المحررين في دورية Nature (هنري غي – Henry Gee) عن مشكلة التحقق في مسألة السلف المشترك وتتبع الأسلاف فيقول:
“لا توجد حفرية تدفن ومعها شهادة ميلاد، هذه هي الحقيقة. وحقيقة ندرة الأحفوريات يعنيان أنه من المستحيل فعلياً ربط الأحفوريات في سلسلة من سبب ونتيجة (سلف وخلف) بأي طريقة سليمة. إن أخذ مجموعة من الأحفوريات ووضعها في سلسلة تطورية ليس افتراضاً علمياً يمكن اختباره، إنما هو بالأحرى اعتقاد يحمل نفس درجة صحة قصص ما قبل النوم – ممتع وربما في بعض الأحيان مرشداً – لكنه ليس علمياً”(45)
وحتى في نطاق اختبار تلك الفرضية من ناحية معلوماتية بحتة، أي من حيث القدرة على اختبارها حسب ما توفر لنا من معلومات حول الأحداث الماضية، فإن الباحثان (إليوت سوبر – Elliott Sober) و (مايكل ستيل – Michael Steel) يخبرانا في دراستهما المنشورة عام 2002 بعنوان (اختبار فرضية السلف المشترك) أنه باستخدام أسس نظرية المعلومات، أنه يكاد يكون من المستحيل إثبات فرضية السلف المشترك وتحدر الكائنات من أصل واحد، لأن المعلومات المتوفرة لدينا لا يمكنها أن تقدم إجابات عما حدث في الماضي السحيق! (46)
وتجادل تلك الورقة العلمية أنه حتى لو أمكن للعلماء التطوريين افتراض بعض خصائص التشابه بين بعض الكائنات وبعضها، فإن هذا لن يخبرنا أي شيء ولن يمكنه تأكيد فرضية السلف المشترك بالابتعاد أكثر في الماضي، لأنه كلما ابتعدنا كلما قلت المعطيات والمعلومات التي لدينا، وبالتالي لن يكون من الممكن التوصل إلى أي قيمة مشتركة بين المتغيرات (السمات المتشابهة القريبة، والسلف المشترك البعيد).
وتدعو الدراسة في الختام جموع البيولوجيين إلى الاعتراف بهذه المعضلة دون مواربة وبشفافية تامة، أن فرضية السلف المشترك العام لا يمكن إثباتها قائلين:
“تعتبر فرضية السلف المشترك أساسية لنظرية التطور المعاصرة. ومع ذلك، لا توجد منهجية صالحة متاحة إلى الآن لاختبار تلك الفرضية، تلك التي ستسمح لنا بالنظر في مجموعات مختلفة من السمات”(47)
على جانب آخر، حاولت بعض الدراسات الحديثة أن تدرس إمكانية اختبار فرضية السلف المشترك رياضياً عن طريق مقارنة بعض السمات الجزيئية المشتركة، مثل دراسة (دوجلاس ثيوبولد – Douglas Theobald) والمنشورة عام 2010 لكنها مع الأسف قدمت معلومات ناقصة ومتناقضة أيضاً (48)
وقد تم الرد عليها في عدة أماكن من باحثين آخرين. فعلى سبيل المثال، يقدم الباحثان (مايكل ستيل – Michael Steel) و (دايفيد بيني – David Penny) نقداً لاذعاً لهذا الاختبار فيقولا في ورقتهما المنشورة في نفس العام في دورية (نايتشر) (49):
” طريقة ثيوبولد هي أنه قد أخذ 23 بروتيناً منتشرين من المجموعات الأحيائية الرئيسية الثلاثة (حقيقيات النواة، والبكتيريا، والبكتيريا القديمة) ثم قام بعمل نموذج رياضي لاستنتاج أشجار أو شبكات الحياة من تسلسلات هذه البروتينات. والخطوة الثالثة، كانت محاولة مقارنة احتمالات النماذج المختلفة لتطور تسلسل هذه البروتينات، وبالتالي النماذج المختلفة للأشجار التطورية. غير أنه بأخذ كل ذلك في الاعتبار، استنتج ثيوبولد أن نموذج الشجرة التطورية الواحدة أصح من نموذج شجرتين مستقلتين.
الأكثر إثارة في بحث ثيوبولد أن إجراء محاولة لإثبات النموذج التطوري يتطلب في حد ذاته قدر كبير من المرونة، فوجود تشابه في التسلسل بين مجموعة من البروتينات المختلفة غير كاف إطلاقاً لاستنتاج وجود شجرة تطورية، لأنه من الممكن جداً أن ينشأ نفس التشابه من تطور متقارب (ظهور هذه السمات بشكل مستقل في هذه الأنواع) وكذلك الانتقال الأفقي للجينات، وعدم التأكد الكبير من نشوء هذه التسلسلات الوظيفية يضيف الكثير من الإرباك لمثل هذه الدراسات”
الرد الثاني على هذه المحاولات جاء من الباحثين اليابانيين (يونيزاوا – Yonezawa) و (هاسيجاوا – Hasegawa) والتي نشرت في دورية (نايتشر) أيضاً. يقول الباحثان:
“بالرغم من أن محاولته ربما كانت خطوة أولى لمحاولة إثبات فرضية السلف المشترك الأوحد رياضياً، إلا إنها غير كافية لرفض النماذج الأخرى التي ترجح نشوء أشجار عديدة للحياة. وبالرغم من أن (ثيوبولد) قد صرح أن تشابه التسلسل في البروتينات قد يكون لأسباب أخرى غير السلف المشترك، إلا أنه لم يأخذ تلك الأسباب في الحسبان في دراسته الرسمية” (50).
ويعلق المراجع على هذه الدراسة السابقة، البروفيسور (ويليام مارتين – William Martin) من جامعة (دوسلدورف) قائلاً:
“إن ثيوبولد قد ارتكب مغالطة رجل القش حين قارن وجود سلف مشترك، مع نشوء هذه البروتينات في كل الأنواع بمحض الصدفة. لقد تجاهل فكرة أن تشابه الحمض النووي بين الكائنات هو ضرورة لتشابه آليات الأيض بينها. إنه ببساطة قد اقترح (اللامشكلة) وقام بحلها، ويبدو أن مراجعي ورقته قد رأوا أن هذا اكتشاف عظيم وجديد”
إن كل الشواهد التي لدينا، بل وحتى النماذج الرياضية المنطقية، تشير إلى الصعوبة البالغة بل الاستحالة في التحقق من هذا الفرض الأولي المهم لداروين والذي تقوم عليه فكرة “شجرة الحياة التطورية”. وعلى الرغم من أن الأمثلة التي يسوقها التطوريون أنفسهم هي في الغالب أمثلة ناقصة ولا يحظى الكثير منها بالاتفاق كما ذكرنا، فإن المشكلة الأساسية هنا ليست صحة تلك الأمثلة المحدودة، بل هي عدم القدرة على اختبار تلك الفرضية أو التحقق من صحة هذا التعميم الاستقرائي. لا يكفي في المجال العلمي أن تعجبك “وجاهة أي فكرة” إن كانت فكرة غير علمية لا يمكنك التأكد من صحتها، ولا اختبارها، ولا التحقق منها.
ومن العجيب أن تجد أن هذه الفرضية بالذات هي الفرضية الأساسية التي لا يتخلى عنها أي تطوري، على الرغم من أنها الفرضية التي يستحيل إثباتها أو التحقق منها!