بعد أن عرضنا للعديد من المفاهيم الأساسية في فلسفة العلوم، بما في ذلك الفرق بين المدرسة التجريبية الاستقرائية، ومدرسة كارل بوبر. واستعرضنا مفاهيم الظاهرة والفرضية والنظرية في ضوء تلك الاتجاهات، نحاول في هذا الجزء أن نجيب على أسئلة مهمة في هذا المجال.
كيف تظهر النظريات والنماذج العلمية؟
وكيف تنهدم النظريات السابقة؟
وهل لابد من وجود نظرية بديلة جديدة تنافس النظرية القديمة قبل أن يتم التخلي عنها؟
أجاد فيلسوف العلوم “توماس كون” في الإجابة عن هذه التساؤلات في كتابه الشهير “بنية الثورات العلمية” والتي سنحاول هنا تلخيص أفكاره فيه والتي تتمحور حول سؤال أساسي مهم، هو: كيف يتغير العلم؟
وقد أجادت الأخت “د/مها الجريس” في تلخيص أفكار الكتاب في كتيب مختصر نعرض بعض ملامحه هنا بتصرف.
كان الرأي السائد في الوسط العلمي أن العلم يتقدم بشكل تراكمي بالضرورة، ولذلك كان التوقع السائد أن العلم دائماً سيتطور أكثر بالبناء على ما سبق. هذا التصور الذي كان رائده “نيوتن”، لكن كون يخبرنا أن هذا التصور لعملية تقدم العلم هو تصور خاطئ!
يرى “كون” أن التغييرات الأساسية والكبرى في مسيرة العلم تحصل بفعل “الثورات العلمية”. يرى كون أنه في أي مجال علمي، هناك دائماً نموذج أو “بارادايم” مسيطر. أو ما يسميه كون “العلم العادي” وهي فترة تراكم للمعرفة وفيها يقبل العلماء النموذج المسيطر ويعملون على نشره بأي شكل.
هذه العملية تؤدي حتماً إلى ظهور ألغاز أو حالات شاذة من المستحيل فهمها من خلال النموذج المسيطر، وعندما تزداد هذه الشذوذات تتولد “الأزمة” والتي تؤدي إلى الثورة العلمية، ومن ثم توليد نموذج أو بارادايم جديد.
يلخص توماس كون في كتابه مسيرة التقدم العلمي في ثلاث مراحل:
المرحلة اﻷولى: مرحلة ما قبل النموذج
وفيها يكون العلماء في مجال معين منقسمين بشأن النظريات الصالحة لتفسير ظاهرة معينة، وبالتالي توجد عدة نظريات غير متوافقة فيما بينها ويقوم العلماء بالبحث وفقاً لها. مع الزمن يبدأ هؤلاء العلماء شيئاً فشيئاً في التجمع حول واحد من هذه النماذج الفكرية والذي يرون أنه أصلح من البقية في تفسير الظاهرة قيد الدراسة، ويزداد الاهتمام به دون غيره حتى الوصول إلى قبول عام لهذا الإطار بما يحتويه من مصطلحات وطرق بحث ومفاهيم، وهنا تتحول هذه النظرية إلى “نموذج قياسي”. وعند ذلك تتحول مجموعة الباحثين هؤلاء إلى أصحاب مهنة أو مذهب علمي مستقل.
يبدأ المجتمع العلمي هنا في اعتبار أن هذه النظرية تشكل أساس ممارساته العلمية والبحثية، ويعاد تدريس النظرية في الكتب والجامعات “بشكل مجمل” مع التركيز على قدرتها التفسيرية وعلى النقاط التي استطاعت تفسيرها، مع غض النظر عن جوانب قصورها وظروف نشأتها.
المرحلة الثانية: مرحلة العلم الاعتيادي
يكون معظم العلماء أشخاصاً محافظين، يقبلون فقط بالإطار العلمي السائد، ويسعون لتطبيق ما تعلموه في حل المشاكل التي لم يستطع هذا النموذج حلها بعد، وهم يثابرون في سعيهم هذا بإصرار بسبب الثقة الناجمة عن النجاحات التي حققوها وعن الإجماع السائد بين الباحثين في هذا المجال. وهنا يتحول البحث العلمي ليصبح أشبه بحل الألغاز. فمع مرور الزمن تظهر حالات شاذة لا يستطيع العلم الاعتيادي والقواعد الموجودة فيه التعامل معها، أي أنها تتعارض مع النموذج.
ما يحدث هنا في العادة، وللأسف، هو أن يتجاهل الباحثون تلك الألغاز والشذوذات بشكل عام أو يلومون أدواتهم العلمية أو يقومون بإجراء تعديلات بسيطة على النموذج لمحاولة الالتفاف على تلك الألغاز والمشاكل.
المرحلة الثالثة: مرحلة الأزمة
وذلك عندما تستمر الحالات الشاذة بالازدياد، وتصبح النتائج العلمية الجديدة غير متوافقة مع النموذج، وبالتالي تكون هناك حاجة لـ”ثورة علمية” تستبدل النموذج السائد بنموذج جديد، وفي هذه المرحلة يتم فحص القواعد واﻷسس المتعارف عليها في هذا المجال العلمي، والدعوة إلى وضع نموذج جديد، و مع استقرار النموذج الجديد يعود العلماء إلى البحث في مرحلة العلم الاعتيادي و حل الألغاز وفقاً لقواعده، وهكذا.
يرى كون أن الأزمات العلمية تنتهي وفقاً لثلاث حالات:
1- أن يثبت النموذج القياسي القديم قدرته على حل الأزمة ويستعيد الثقة
2- أن يعلن العلماء أنه لا أمل في حل الأزمة في ظل النموذج القديم، تاركين الأمر كله للأجيال القادمة من بعدهم.
3- أن تنتهي الأزمة بظهور نموذج مرشح جديد كبديل عن النموذج القديم، ويتبع ذلك معركة أخرى حول قبوله.
نحاول هنا أن نجيب على السؤال السابق: هل لابد من وجود نظرية بديلة جديدة تنافس النظرية القديمة قبل أن يتم التخلي عنها؟
الإجابة: ليس بالضرورة، فبمجرد أن يثبت النموذج القديم فشله في تفسير الألغاز أو الحالات الشاذة، يجب التخلي عنه والتوقف عن دعمه للإسراع في التوصل إلى نموذج جديد أو وعد بحل المشكلات .. فالتمسك بالنموذج الذي ثبت فشله لن يؤدي في الواقع إلا إلى عرقلة وإبطاء عملية التقدم العلمي.