علم بجدفلسفة العلم

علم بجد – مقال 5

تعاريف في البحث العلمي

تعاريف أساسية في البحث العلمي

تناولنا في المقال السابق عدة مفاهيم أساسية حول منهج العلوم الطبيعية، أو المنهج العلمي، والفرق بين المدرسة التجريبية الاستقرائية الكلاسيكية، وبين مدرسة كارل بوبر ومن معه .. واليوم نستعرض مفاهيم مهمة، كالظاهرة والفرضية والنظرية، وفهم تلك المفاهيم في ضوء مدرستي العلوم الطبيعية
.

يهمنا في هذا الجزء أن نعرف هذه المفاهيم لتكون دليلاً للقارئ فيما سيأتي من مناقشات. ولن نعرف هنا تلك المفاهيم فقط، بل سنعرض كيفية تناولها في إطار المنهج العلمي في ضوء ما ناقشناه من فلسفة مدرستي الاستقراء، وفلسفة كارل بوبر.

الظاهرة:

تعرف الظاهرة بمفهومها البسيط على أنها “حدث موجود في الطبيعة قابل للمشاهدة، أو الحس ويكون عادة شيئاً غير عادي أو مثيراً للاهتمام” (9)
الظاهرة هي ببساطة حدث يمكننا ملاحظته، قد يحتاج إلى تفسير لنعرف كيف يحصل. يهمنا هنا أن نشير إلى أن العلم التجريبي ليست وظيفته أن يجيب على سؤال الغاية (لماذا تحدث الظاهرة)، بل وظيفته هي أن يجيب على سؤال الكيفية (كيف تحدث الظاهرة). فالعلم الطبيعي هدفه الإجابة عن الكيفيات لا الماهيات والغايات.

الفرضية:

لعلي أصدمك هنا إن قلت لك أن الفرضية ليست ببساطة إلا نوعاً من “التكهن المعرفي”، فالفرضية هي ببساطة محاولة تخمين لمعرفة كيفية حدوث الظواهر، ويعرفها قاموس كامبردج على أنها ” فكرة أو تفسير لشيء يستند إلى حقائق معروفة (الظاهرة) ولكن لم يتم إثباتها بعد” (10)
كما أسلفنا في المقالات السابقة، فإن المدارس المختلفة لفلسفة العلوم تضع شروطاً للفرضيات كي تكون علمية، أن تكون قابلة للاختبار Testable، والتحقق Verifiable، أو التكذيب Falsifiable. فالفرض الذي لا يمكن اختباره عن طريق التحقق منه أو تكذيبه لا يعتبر فرضاً علمياً من الأساس.
فلو أننا قلنا أن لدينا فرضية أن هناك أكوان كثيرة متعددة غير كوننا المنظور، لكنها لا يمكن رصدها أو التحقق من وجودها لأنها تستعمل قوانين فيزيائية مخالفة لقوانيننا، فإن ذلك يخرج هذه الفرضية على الفور من كونها فرضية علمية، لعدم القدرة على اختبارها، أي أنها “حصنت” نفسها ضد الاختبار.
تتألف معظم الفرضيات من مفاهيم يُمكن ربطها معاً واختبار علاقاتها ببعضها. وتجتمع الفرضيات معاً لتشكل إطاراً نظرياً. ومع الاستمرار بجمع المزيد من البيانات والأدلة لدعم الفرضيات، فإنها تصبح فرضية قيد الدراسة، الأمر الذي يُمثل خطوة مهمة كي تجتمع الفرضيات لتصبح بناءاً معرفياً يسعى إلى تفسير الظاهرة، وهو ما نعرفه باسم (النظرية).

النظرية:

تعرف النظرية على أنها ” بياناً بالقواعد التي يستند إليها موضوع الدراسة، أو الأفكار المقترحة لتفسير ظاهرة ما” (11)
فالنظرية هي “بناء نظري” مكون من مجموعة من الفروض، سواءاً تلك التي ثبتت صحتها بالتجربة والاختبار، أو التي لم تثبت بعد، أو التي ثبت خطؤها، أو خليطاً من ذلك كله.
النظرية هي عبارة عن مجموعة من المفاهيم والتعريفات والافتراضات التي تعطينا نظرة منظمة لظاهرة ما عن طريق دراسة المتغيرات الخاصة بتلك الظاهرة، وبهدف تفسير تلك الظاهرة.
ولذلك، فهي معرضة للصواب والخطأ (الإثبات والنفي)، وتزداد صحة النظرية حين تثبت فروضها، وحين تقدم توقعات صحيحة عن سير الظاهرة في المستقبل أو في ظروف مغايرة.
إن تاريخ العلم في الواقع هو تاريخ فشل النظريات، لا نجاحها، فإن كل مرحلة في التاريخ البشري تخبرنا بوضوح أن التقدم العلمي يهدم في الغالب النظريات القديمة ويثبت خطأها وقليلاً ما يعززها، ولذلك فمن السذاجة غير العلمية أن نظن أن وجود أي نظرية أو تدريسها في أي جامعة يعني الإقرار بصحتها وصحة كل فروضها، وصحة كل إطارها النظري.
فنظريات مثل الأثير، وعلم الفراسة، والكون الثابت، والتوالد التلقائي، كانت تعتبر نظريات علمية طبقاً لتجارب وأدلة محدودة حتى ثبت خطأها بالأدلة.
في عام ١٩٣٨م، وقف الفيزيائي الألماني الكبير “كارل فون فايتسكر” في محاضرة تكلم فيها عن نظرية الانفجار العظيم، وانتصر للقول القائل أن للكون بداية وأنه يتوسع وأنه ليس أزلياً، وهو القول المعترف به الآن في الأوساط العلمية الفيزيائية. وقف وقتها عالم الفيزياء المرموق “والتر نيرنست” غاضباً في وجه “كارل فايتسكر” قائلاً: “إن القول أن للكون بداية هو قول غير علمي، ولا يمكن اعتباره علمياً. إن مسألة الكون الأزلي هي (حقيقة علمية) تقوم عليها كل العلوم، وإنكار أزلية الكون هو هدم لأسس العلم” رد فايتسكر قائلا: “إن وضع افتراضات بناءاً على ملاحظات مدروسة هو مسألة علمية” فرد نيرنست قائلا: “لا يمكنك وضع فرضية تخالف أسس العلم المستقرة هذا كلام غير علمي” (12)
يخبرنا هذا الحوار بين اثنان من كبار علماء الفيزياء أن اتباع السائد دون أدلة، بل وحين تخبرنا الأدلة بخلاف ما نظن، هو في الواقع موقف غير علمي، وأن الانتصار لنظرية بعينها حين تفشل في إثبات إطارها النظري، وحين تفشل توقعاتها، هو ضرب من الخيانة العلمية واحتقار للمنهج العلمي.
بعد هذه التعاريف المبسطة، ورجوعاً إلى مدرستي الفلسفة التجريبية، يمكننا أن نقول إن منهج الكشف العلمي في المدرسة الاستقرائية يبدأ بالملاحظة والتجربة، ومن خلالهما يُكوِّن الباحث تعميماً استقرائياً أولياً، وللتيقن من هذا التعميم يتم وضع الفروض القابلة للاختبار والتحقق، ثم التأكد من صدق الفروض، وصولًا لإثباتها أو نفيها.
أما في مدرسة بوبر، فإن الخطوات العلمية تبدأ بمشكلة ما تخص الظاهرة الطبيعية، ثم يتم اقتراح مجموعة من الفروض، دون استقراء، ومن ثم نظرية جديدة بهدف تفسير الظاهرة، ثم استنباط واستنتاج قضايا قابلة للاختبار من النظرية الجديدة، ثم محاولة تكذيب أو نفي تلك القضايا عن طريق اختبارها في ضوء الملاحظات والتجارب.
ونظرًا لأنه عادة توجد فروض ونظريات متصارعة فإن الخطوة الأخيرة تكون تفضيل إحدى النظريات وترجيح إحداها. وصحة أي نظرية عند بوبر دائمًا مشكوك فيها، ودائمًا مؤقتة، إذ نحن دائماً ننتظر ظهور الحل البديل، حتى لو لم نعرف ما هو حالياً.
المصدر
(9) تعريف الظاهرة، قاموس كامبردج للمتعلم المتقدم، مركز نشر جامعة كامبردج.(10) تعريف الفرضية، قاموس كامبردج للمتعلم المتقدم، مركز نشر جامعة كامبردج.(11) تعريف النظرية، قاموس كامبردج للمتعلم المتقدم، مركز نشر جامعة كامبردج.(12) Carl F. von Weizsacher, The Relevance of Science (1964), 151

أشرف قطب

حاصل على بكالوريوس العلوم في تخصص الكيمياء الحيوية من جامعة بنها في مصر، وماجستير العلوم في إدارة نظم المعلومات، وماجستير الإدارة في تخصص إدارة المعلومات، وماجستير العلوم في إدارة النظم الهندسية، من جامعة ليستر في بريطانيا.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى