تخطئة الداروينية في دراسة علمية حديثة
يصف فيلسوف العلوم “توماس كون” مرحلة الأزمة لأي نظرية علمية بأنها تلك المرحلة التي تصبح فيها النظرية عاجزة بسبب الشذوذات الكثيرة التي لا تقدم لها النظرية أي تفسير منطقي. في تلك المرحلة، يدرك العلماء في المجال أن النظرية أصبحت في أزمة وأنه قد حان أوان تغييرها بشكل جذري أو استبدالها، حتى وإن لم يوجد نموذج منافس.
نظرية التطور الداروينية تعيش حالياً تلك الأزمة. فما بين مئات الدراسات التي تنتقد كافة جزئيات النظرية، إلى الهجوم على تفسيراتها غير الكافية ومحاولة تقديم تفسيرات بديلة كما فعل علماء مثل “دينيس نوبل” أو “لين مارجوليس” أو “جيمس شابيرو”، إلى التصريح المباشر بأن النظرية في أزمة وقد حان أوان استبدالها كما في كلمة “جيرد مولر” أمام مؤتمر الجمعية الملكية البريطانية.
اللافت للنظر هنا أن الانتقادات صوتها يرتفع وتزداد حدة ومباشرة، وهذا متوقع في ظل الدفاع الذي يعتبره البعض دفاعاً عقائدياً وغير مبرر عن النظرية رغم فشلها.
دراسة حديثة بعنوان “الداروينية الحديثة بحاجة إلى طفرة لكي تنجو” تؤكد ذلك المعنى، وتؤكد ما قلناه لسنوات من أن النظرية لا تقدم أي تفسير خارج التكيفات داخل النوع الواحد، وأنها عاجزة تماماً خارج تلك الحدود.
تقول الدراسة المنشورة في دورية Progress in Biophysics and Molecular Biology في مقدمتها:
“التطور الدارويني هو مفهوم وصفي من القرن التاسع عشر، قد تطور هو نفسه. الانتخاب عن طريق بقاء الأصلح فكرة آسرة. تم التحقق من التطور الصغروي Microevolution بيولوجيًا وتجريبيًا من خلال اكتشاف الطفرات، بينما كان هناك تقدماً محدوداً في الداروينية (التركيبية) الحديثة. ينصب تركيزنا في وجهة النظر هذه إلى تقديم أدلة لتوثيق أن الانتخاب القائم على بقاء الأصلح غير كافٍ خارج حدود التطور الصغروي. نعرض هنا حسابات الاحتمالات الواقعية على مستوى التطور الصغروي. لكن في حالة التطور الكبروي Macroevolution فإن احتمال حصول جميع أحداث الانتواع والتعقيدات التي تظهر في الانفجار الكامبري، هو احتمال غير قابل للتصديق للغاية 10^-50، إذا اعتمدنا على الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح. نستنتج أن التطور الكبروي عن طريق البقاء للأصلح لا يمكن إنقاذه بالحجج الخاصة بالانجراف الجيني العشوائي والآليات الأخرى المقترحة (في الداروينية الحديثة). نحن نتحدى علم الأحياء التطوري للتقدم بجرأة ليتجاوز أوجه القصور في التركيبية الحديثة نحو نظرية موحدة، على غرار الجهود نحو نظرية موحدة كبرى في الفيزياء. يجب أن يشمل هذا إمكانية وجود (قوة خامسة) في الطبيعة.”
تخبرنا الدراسة الحديثة أشياء مهمة حول ذلك النموذج الدارويني الذي يدرس في المدارس والجامعات ويصدق به جماهير الماديين والملحدين حول العالم:
1) الداروينية الحديثة عاجزة عن أي تفسير خارج التطور الصغروي
2) تطور جميع أشكال الكائنات وتعقيداتها في الانفجارات الأحيائية لا يمكن تفسيره بالآليات الداروينية، وهو غير محتمل إحصائياً
3) هناك فرق بالطبع بين التطور الصغروي (التكيفات داخل النوع الواحد) وبين التطور الكبروي (ظهور التعقيد الوظيفي والصفات الجديدة) .. ذلك الفرق الذي دأب التطوريون على إنكاره دوماً
4) يجب على المشتغلين بالبيولوجيا التطورية تجاوز هذا النموذج، ودراسة إمكانية وجود “قوة خامسة” في العالم لا نعرفها بعد.
تكمل الدراسة قائلة:
“نحن ننتقد قبول التطور الدارويني والداروينية الحديثة دون سؤال بما في ذلك ما يشار إليه عمومًا بنموذج “التركيبية الحديثة”. ذلك النموذج الذي يعني بشكل عام التغير التدريجي عن طريق الطفرات العشوائية والآليات المرتبطة بها، ومن ثم الحفاظ عليها من خلال مفهوم الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح.
هذا النموذج قد يفسر التطور الصغروي، حين تنشئ طفرة واحدة، على سبيل المثال، نتيجة مهمة في ظروف بيئية قوية تساعد على الانتخاب. لكن هذا النموذج غير كافٍ للتطور الكبروي (وبالتأكيد غير كافٍ لتفسير الانتواع) والذي يتطلب تغيرات تدريجية متعددة، والتي كل منها على حدة لا تقدم أي فائدة وظيفية. ولذلك، فإن الاكتفاء بنموذج انتخاب الأصلح، يجعل علم الأحياء عاجزاً ميكانيكيًا عن تفسير معظم التغيرات الكبرى.
بقاء الأصلح قد يكون تفسيراً مقنعاً في حال حصول طفرة واحدة وتثبيتها في حوض جيني واحد، لكن التطور الكبروي يحتاج إلى حصول تغيرات كبرى وعديدة في أحواض جينية مختلفة. ولذلك، فمفهوم البقاء للأصلح غير كافٍ للحفاظ على تلك التغيرات الفردية في الأحواض الجينية المتعددة، حيث لا يكون لتلك التغيرات الفردية أي زيادة في الكفاءة.
وبالتالي، فإن التطور يفتقر إلى آلية كافية لتفسير تلك الاختيارات متعددة العوامل، لأن آلياته تفتقر إلى وجود آلية تتطلع إلى الأمام، أو آلية غير عشوائية أو حتمية، أو آلية تحدث من خلال عملية بيولوجية غير معروفة”
ثم تجيبنا الدراسة عن هذا السؤال المهم، هل تمت تخطئة الداروينية؟ فتقول:
“كتب داروين في كتابه أصل الأنواع: (إذا أمكن إثبات وجود أي عضو معقد لم يكن من الممكن أن يتشكل من خلال تعديلات كثيرة طفيفة ومتتالية، فإن نظريتي ستنهار تمامًا. لكن لا يمكنني العثور على مثل هذه الحالة.) اليوم، تلك الحالات التي لم يجدها داروين وفيرة للغاية، بما في ذلك كل انتقال معقد إلى مخطط جسدي جديد، أو دورة تمثيل غذائي، أو سلسلة تمثيل غذائي. هناك عمليات متعددة الخطوات مطلوبة في كل خطوة تطورية.”
هذه الدراسة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي توجه صيحة مدوية إلى المفتونين بداروين ومن سار على نهجه: صيحة مفادها: أفيقوا واستعملوا عقولكم، ولا تكونوا كالقطيع الذي يسير دون تفكير. النموذج فاشل، تجاوزوه وشغلوا عقولكم.
رابط الدراسة في المصادر.
ملحوظة: الدراسة تم قبولها ونشرها، لكن التاريخ الرسمي لإصدار هذا العدد من الدورية هو أغسطس القادم 2022.