التطور والداروينية

حوار مع صديقي التطوري

على مدار عدة أيام، كان لي حواراً مع الأخ الدكتور محمد عادل جمعة، وهو أحد المسلمين القائلين بالتطور، حول موضوع نظرية التطور ومكانها العلمي، وهل تستحق أن تكون نظرية علمية أم لا، إلى جانب بضعة نقاط حول فهم النظرية من الجانب الإسلامي وتوافقها أو تعارضها مع الإسلام. والدكتور محمد أخ مسلم يتبنى فكرة “التطور البيولوجي كآلية للخلق”.

الحوار بشكل عام كان مثمراً، وقد اتفقنا فيه على عدة نقاط، واختلفنا في نقاط أخرى اتفقنا فيها على ألا نتفق. وكان من ضمن ما اتفقنا عليه أن يكتب كل منا على صفحته ملخصاً بالحوار من وجهة نظره، وهذا المقال هو إيفاءاً مني بهذا الاتفاق.

1️⃣ حول مسألة توافق النظرية أو تعارضها مع الإسلام
آثرت أن أبدأ بهذا الجزء قبل الجزء العلمي، لأن هذا الجزء هو ما يقفز دائماً إلى المشهد في أي مناقشة حول النظرية، وبالذات حين يكون الحوار إسلامياً – إسلامياً، لسبب ما.

*️⃣
اتفقنا أنه فيما عدا ما يخص خلق أبو البشر، آدم عليه السلام، والذي توافرت نصوص الكتاب والسنة قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، على خلقه خلقاً خاصاً معجزاً، فإنه لا يوجد هناك نصاً دينياً في الإسلام قطعي الثبوت والدلالة ينص على خلق المخلوقات جميعها بنفس الكيفية.
*️⃣ واتفقنا أن القول بتطور بقية الكائنات (من حيث المبدأ) لا يخالف معلوماً من الإسلام بالضرورة، ولا ينقص من دين من اعتقد ذلك. وإن كنا نختلف بالطبع على الوزن العلمي لهذه الفرضية.
*️⃣ واتفقنا كذلك على أن الإسلام ينهى عن القول بالظن والتخرص، كما في قوله تعالى (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولً)

2️⃣
حول القيمة العلمية لنظرية التطور، ومكانها من التأكيد العلمي

*️⃣
اتفقنا على أن الرؤية المادية الإلحادية للتطور، ذلك النموذج القائم على كفاية الآليات الطبيعية والقائم بشكل كامل على الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي، هو نموذج تنتابه العديد من المشاكل، ويعجز منفرداً عن تفسير معظم ظواهر الحياة.
*️⃣ واتفقنا كذلك على أن العديد من الدراسات في هذا الشأن، والتي تحاول جمع شتات هذا النموذج، تُحَمل الأدلة في الكثير من الأحيان ما لا تحتمل، وتضع تحيزات أو توجيهات لا تقول بها الأدلة، بغية الحصول فقط على التأييد المجتمعي في الوسط العلمي، واستمرار الدعم المالي لتلك الدراسات.
*️⃣ واتفقنا أن النظرية في شكلها الحالي تشكل نموذجاً تفسيرياً محتملاً فقط، أو حسب تعبير دكتور محمد أنه (أفضل التفسيرات المحتملة المتاحة) وأنه لم يصل إلى درجة الإثبات، فضلاً عن أن يتم إضفاء صفات مثل “الحقيقة العلمية” عليه. واتفقنا أن العلم في الحقيقة لا يعمل بهذا الشكل، بل يجب أن يتم الترحيب بالنقد والحوار العلمي حول أي نظرية، بما في ذلك نظرية التطور.
*️⃣ واتفقنا كذلك على أن مفهوم “التطور” كظاهرة، بعيداً عن النموذج الحالي، بمعنى التغير عبر الزمن، أي أن الكائنات الموجودة حالياً لم تكن موجودة سابقاً، وأن الكائنات التي كانت موجودة سابقاً لم تعد موجودة حالياً، هو ظاهرة حقيقية، وهذه الظاهرة فقط هي ما يمكن أن نطلق عليه أنه “حقيقة علمية”، وليس الإطار التفسيري النظري الحالي.

*️⃣
واختلفنا حول مسألة كفاية الأدلة على حصول التطور في الكائنات:
1️⃣ فيما يخص مسألة الانقطاعات في السجل الحفري والظهور المفاجئ للعديد من الشعب والفصائل والأنواع.
شرحت أنا كيف أن السجل الحفري يؤرخ لانقطاعات متتابعة، بداية من الانفجار الكامبري، ومروراً بالعديد من الأحداث الانقراضية التي يتبعها ظهور مفاجئ للعديد من الأنواع، والمخططات الجسدية الجديدة، من دون ظهور أي مسارات تطورية تؤدي إلى ذلك، ولا وجود هذا التسلسل الذي افترض داروين ضرورة وجوده، حيث أن الطبيعة – على حد قوله – لا تقوم بقفزات. وأن هذا الظهور المفاجئ ثم ثبات هذه العائلات والفصائل حتى انقراضها هو السائد في السجل الحفري، وليس الاستثناء. كما أن الأدلة الجزيئية لا تفسر لنا كذلك كيفية ظهور أشكال الحياة المختلفة تلك.
لكن دكتور محمد يرى، أنه ولابد أن كل كائن حي يأت من كائن حي يسبقه، فإذا كان كل كائن حي نراه حالياً يأت من أب وأم، فإن هذا يجعل من ذلك قاعدة عامة، ولابد أن كل شكل من أشكال الحياة قد سبقه شكل ما من أشكال الحياة، لأننا لم نشاهد ولم نرصد أي كائن حي يظهر إلى الوجود وقد سبقه عدم. وعلى الرغم من أن السجل الحفري يخبرنا بوضوح أن هناك فجوات كبيرة بين أشكال الحياة المختلفة، إلا أن دكتور محمد يرى أنه ولابد أن هناك أشكال وسيطة عديدة لكنها لم يعثر عليها بعد في السجل الحفري، وبنى ذلك على قاعدة أن (عدم العلم ليس علماً بالعدم).
واختلفت أنا معه في إقرار هذه القاعدة في العلوم التجريبية، فإن العلوم التجريبية يجب أن تقوم على الأدلة القابلة للاختبار، لا الظن ولا الاحتجاج بمجهول غير موجود. إذ أننا بهذه الطريقة يمكننا حرفياً أن نفترض وجود أي شيء، ثم نقول أنه ولابد موجود، لأن عدم علمنا به ليس علماً بالعدم.
وقلت أيضاً أننا إذا اعتمدنا تلك القاعدة (عدم العلم ليس علما بالعدم) في وجود مخلوقات وسيطة غير موجودة ولا تدلنا عليها الأدلة، فإننا يمكن بالمثل أيضاً أن نعتمدها في مسألة ظهور كائنات حية يسبقها عدم .. فصحيح أننا لم نرصد أبداً مخلوقاً يظهر إلى الحياة فجأة، لكن ربما حدث ذلك في الماضي، لأن عدم العلم ليس علماً بالعدم!
ثم أننا متفقان أيضاً على أن الكون نفسه قد ظهر وقد سبقه عدم، وأن الحياة في أول ظهورها قد ظهرت وقد سبقها عدم، وأن النموذج الدارويني القائم على التطور الكيميائي وظهور الحياة من مواد كيميائية غير حية، هو نموذج مهترأ نظرياً.
وأجاب هو أنه يرى أنه في حالة غياب الدليل على العكس، فيجب أن ترد الظواهر العلمية لأصل السنن الكونية .. فهو يرى أن أصل السنة الكونية المطردة أن الكائن الحي لا ينبثق إلا من كائن حي مثله.. و كل حالة علمت بخلاف هذا (كناقة صالح، وحية موسى، وخلق عيسى بغير أب، والخلق الأول للكون) هي من قبيل المعجزة المتحدى بها و لو كان الخلق من عدم هو سنة من سنن الله في الكون لما كان هناك وجه للتحدي في هذه المعجزات.
وأجبت أنا أن الخلق الأول، أو خلق الحياة نفسها، لم تكن من قبيل المعجزة المتحدى بها، فإنه لم يكن هناك أحد من البشر وقتها ليكون خلق الكون أو خلق الحياة تحدياً له، وكذلك خلق آدم وحواء لم يكن من قبيل المعجزة المتحدى بها، فكل هذه أحداث نص الله تعالى على أننا لم نشهدها، في قوله تعالى (مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا)
وهذا واضح في أن ذلك لم يكن من قبيل إقامة الحجة على البشر لأننا لم نشهد ذلك، بعكس آيات الأنبياء.
ومن هنا، فلا وجه لاستثناء نشأة أصل الحياة، ولا أصل الممالك والشعب والفصائل، إلخ… فكلها أحداث لم نشهدها كذلك. ولا وجه لحصر مفهوم “السنن الكونية” في الوراثة.
واتفقنا في هذه النقطة ألا نتفق.

2️⃣
حول مفهوم النوع والتطور بين الأنواع
يرى دكتور محمد أن التعريف الوحيد ذو النفع للنوع هو ما كان منعزلاً تكاثرياً عن غيره من الأنواع.
وخالفته أنا في ذلك لأن علماء البيولوجيا التطورية أنفسهم لا يعتمدون هذا التعريف على الدوام، أو يعتمدون غيره في بعض الأحيان، فهناك ما يزيد على عشرين تعريفاً مختلفاً للنوع، يتم التبديل فيما بينها حسب الحاجة.
فعلى سبيل المثال، العديد من أنواع الكلاب بينها انعزال تكاثري في الطبيعة، وعلى الرغم من ذلك يتم تصنيفهم على أنهم من نفس النوع (الكلاب) .. وعلى جانب آخر، فإن الكلب والذئب يتم تصنيفهم على أنهما نوعين مختلفين بالرغم من أنه ليس بينهما انعزال تكاثري كامل، ويتم التزاوج بين الكلاب والذئاب في الطبيعة منتجين نسلاً خصيباً.
ويصر العلماء التطوريين مثلاً أن النياندرتال والإنسان المعاصر ليسا نوعاً واحداً، على الرغم من أن الدراسات تثبت أنهما نوعاً واحداً تزاوج وأنتج نسلاً خصيباً وأنه لم يكن بينهما انعزال تكاثري.
هذه الضبابية والاحتمالية هي ما تجعل من هذا النموذج النظري نموذجاً غير علمي، وتجعل من غير الممكن فحص الأدلة لاختبارها وإخضاعها للتأكيد أو التكذيب.

3️⃣
فيما يخص ما تم رصده من عمليات حيوية يمكن أن نسميها بالتطور.
يرى دكتور محمد أن لدينا العديد من الأمثلة الجيدة على ظاهرة التطور، كمقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، وتحور الفيروسات، وتحور سلالات الكلاب، وتحور بعض أصناف النباتات مثل الموز البري .. ويرى أن هذه أمثلة كافية للدلالة على حصول مثل هذا التطور في كل أشكال الحياة باعتبار ذلك أفضل تفسير متاح.
واختلفت أنا معه في إمكانية تعميم مثل هذه الظواهر على كل أشكال الحياة، لأن الانفصالات الشديدة في السجل الحفري، وعلى المستوى الجزيئي ليست كتلك الأمثلة البسيطة داخل نفس النوع أو نفس العائلة .. فإن ظهور مخططات جسدية جديدة، وأجهزة كاملة جديدة، تعمل مع بعضها بشكل متناسق وغير قابل للاختزال، وبدون أي أدلة على مسارات تطورية أدت لهذه التغيرات، ليست بأي حال مماثلة لتغير تكيفي داخل نوع واحد، أو أنواع فرعية. فهذه التغيرات الكبرى يلزمها معلوماتياً حتى دخول معلومات مشفرة كاملة جديدة إلى داخل الجينوم.
يرى دكتور محمد أنه على الرغم من هذا النقص المعلوماتي الشديد، فإن التطور يبقى هو الاحتمال الأفضل بالنسبة له حتى ظهور نموذج تفسيري آخر.
بينما اختلفت أنا معه في هذه النقطة، وقلت أن النموذج إن كان فاشلاً نظرياً ولا يقدم تفسيرات كافية، فإنه من الواجب علينا الاعتراف بخطئة والبحث عن نموذج بديل، قد نصل إليه وقد لا نصل. ولا مشكلة أبداً ألا نصل، فإن كلينا لا يؤمن أن العلم التجريبي هو سبيل المعرفة الوحيد. ولذلك، فلا مشكلة أن نقول إننا لا نعلم تفسيراً لظاهرة ما، كما أننا لا نعلم كيف بدأ الكون، ولا كيف بدأت الحياة.
واتفقنا في هذه النقطة أيضاً على ألا نتفق.
وختاماً: اتفقنا على أن قضية التطور عموماً تحظى بحجم أكبر من حجمها، وأننا يمكن أن نختلف علمياً حولها كيف شئنا، فهي ليست نظرية مقدسة، ولا فوق النقد، وأن من ينظر إليها بشكل متشكك علمياً ليس عدواً للعلم، بل إن لديه الحق في ذلك علمياً، تماماً كمن ينظر إليها بنوع من القبول. على أن يكون هذا النقد نقداً علمياً لا يربط القضية بقضية الإيمان و الكفر أو بقضية وجود الخالق الحكيم من عدمه، سواءا من الطرف الملحد الذي يتخذها قنطرة للإلحاد، أو من ناحيتنا كمسلمين إلا فيما يخص النصوص قطعية الثبوت والدلالة.

أشرف قطب

حاصل على بكالوريوس العلوم في تخصص الكيمياء الحيوية من جامعة بنها في مصر، وماجستير العلوم في إدارة نظم المعلومات، وماجستير الإدارة في تخصص إدارة المعلومات، وماجستير العلوم في إدارة النظم الهندسية، من جامعة ليستر في بريطانيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى