التطور والداروينية

نشأة الجينات المستحدثة

هل تم تفسيرها؟

نشأة الجينات المستحدثة، هل تم تفسيرها؟

إن أحد أهم الأشياء التي تعملتها في حياتي عموماً، وعلى السوشيال ميديا خصوصاً أن الجهل أسهل بكثير من العلم، وأن الهدم أيسر كثيراً من البناء.
يكفي أحدهم أن يلصق لك رابط ورقة علمية ما ثم يقول لك بكل ثقة: هاك، تفضل، إثبات على صحة التطور .. التطور يا صديقي يحدث أمام أعيننا في المختبر، لقد اكتشف العلماء كذا وكذا وأصبح الأمر منتهياً، هكذا يعمل التطور والانتخاب الطبيعي، إلخ… دون أي شرح ولا تفصيل ولا قراءة حتى للورقة التي يدرجها ليعرض لنا موضع الشاهد وكيف يستدل به، بل هو ربما لم يقرأ الورقة أساساً ولم ير منها إلا عنوانها ومقدمتها، كل ذلك لا يستغرق دقيقة أو دقيقتين.
ويكون مطلوباً من أحدنا أن يذهب فيقرأ الورقة كاملة، ليعرف ما هي الطريقة البحثية المتبعة، وفرضيات الورقة، وكيف تمت التجربة، ونتائجها، وعلاقة ذلك كله بالتطور الدارويني المفترض .. ثم يشرح الورقة ويبسطها ويعلق عليها، في ساعات.

أرسل لي أحد الأخوة جملة رماها أحد التطوريون ممن لا يقرأون (كالعادة)، وفيها ما يلي (بعد تصحيح الأخطاء الإملائية):
“مسألة تطور الجينات الجديدة لم تعد لغزاً، فالآن “يعرف العلماء” كيف تتطور الجينات الجديدة وذلك عن طريق ميكانزمات كالتضاعف الجيني والطفرات
والكيفية تتلخص في نموذجين
نموذج IAD
والذي تم إثباته معمليا و يمكن لأي أحد الإطلاع على الأمر من خلال هذه الورقة (1) أو هذه (2).” انتهى.

وسأعلق على هذا النموذج أولاً قبل أن أعلق على المصائب الأخرى التي جاءت في نقله.
هكذا لصق لك أحدهم دراسة ما، ثم جزم بكل ثقة أن التطور الدارويني عبر الانتقاء الطبيعي والطفرات العشوائية تم إثباته مختبريا .. الأمر محسوم، انتهى الأمر!!
الآن تعالوا لآخذكم في رحلة عن الورقة ومحتوياتها.

ملخص الورقة

الورقة تؤسس لنموذج “نظري” تدعي أنه مطابق لآليات التطور الدارويني .. وأسموه اختصاراً بنموذج IAD أو Innovation, Amplification and Divergence .. الابتكار، والتضخيم، والتحول.
تدعي الدراسة أن الجينات الجديدة قد تنشأ عن طريق تكرار نسخ أحد الجينات .. لكن، ليس أي جين، بل جينات محددة فقط يكون لها مهمة أساسية، ومهمة أخرى فرعية نشأت بالصدفة.
ثم يحدث بمحض الصدفة كذلك أن يكون لتلك المهمة الثانوية فائدة ما في فترة ما من حياة الكائن، فتزيد الخلايا من تعبير هذا الجين (طمعاً) في تلك الفائدة الثانوية .. فيتضاعف هذا الأليل (نسخة الجين) الأصلي أكثر وأكثر.
ثم بمحض الصدفة تنشأ في نسخ هذا الجين طفرات أخرى مفيدة أكثر من الطفرات الضارة وتعزز تلك الفائدة الثانوية .. حتى ننتهي إلى نسخة جديدة تماماً من الجين تؤدي تلك الوظيفة الجديدة.

ماذا فعل الباحثون إذا يا ترى لإثبات هذا النموذج وأن التطور يحصل أمام أعيننا؟

هل وجدوا هذا الجين ذو الوظيفة الثانوية المهمة ودرسوه ثم وجدوا أن تلك الوظيفة الثانوية أصبحت فعلاً أكثر أهمية فزاد تعبير الجين الأصلي وتكاثر وتم نسخه، وتطفيره، وانتخابه طبيعياً كما يفترض النموذج؟ كل ذلك بشكل طبيعي حيادي؟
الإجابة هي: بالطبع لا!! لماذا؟ لأن التطور لا يحدث في الطبيعة مع الأسف!
عمد الباحثون إلى أحد الجينات المعبرة لأحد الأحماض الأمينية من إنزيمات الهيستادين HisA في بكتيريا السالمونيلا، والذي له فعلياً وظيفة أخرى في تحفيز إنتاج حمض أميني آخر هو التريبتوفان TrpF .. ولنسميه مثلاً جين A مع ملاحظة أنه كان هناك بالفعل نسختين مختلفتين تم تجاهلهما.
ثم قاموا (عمداً) بحذف الجينين الأصليين في البكتيريا اللذان وظيفتهما الأساسية هي إنتاج الهيستادين والتريبتوفان، ولنسميهما اختصاراً جينات B و C ليتركوا البكتيريا عمداً بلا أي جينات تؤدي هذه الوظائف!
ثم زرعوا وكرروا (عمداً) نسخة جين A في مكانين (محددين) يحدث فيهما تكرارات بكثرة .. ووضعوا البكتيريا (عمداً) في وسط خال تماماً من الإنزيمين.
ثم قاموا بوضع أفراد البكتيريا التي عززت تعبير جين A تحت اختيار مستمر constant selection .. ماذا يعني هذا؟ يعني أن البكتيرياً (فقط) التي عززت تعبير جين A هي التي تم الحفاظ عليها .. إنتخاب صناعي!
وبعد حوالي 3000 جيل من البكتيريا .. ظهرت نسخ متطفرة من جين A تم اختيارها وزرعها في بكتيريا جديدة بها بعض التحسن والاختيار الوظيفي في إنتاج تلك الأحماض الأمينية.
وبعد كل هذه التدخلات المتعمدة، كانت النتيجة هي: جين له وظيفتين بالفعل، تطفر إلى جينين، لهما نفس الوظائف الأساسية في إنتاج الإنزيمين! هكذا فقط .. أين هي الوظيفة الجديدة التي نشأت؟ لا يوجد!
أين هي الأحماض الأمينية أو الإنزيمات أو البروتينات المبتكرة التي نشأت نتيجة هذه العملية؟ لا يوجد!
طيب أساساً، لماذا كل هذا العناء في توجيه العملية، ووضعها تحت تحكم، وحذف جينات معينة، وزرع جينات أخرى مكانها، في أماكن محددة، ووضع العملية كلها تحت اختيار وتحكم مستمر إذا كان ذلك كله يحدث في الطبيعة بلا أي تدخل خارجي كما تفترض الداروينية؟! .. أليست الطبيعة على كل شئ قديرة كما يظنون؟ لماذا لم يتركوا البكتيريا هكذا بلا أي تدخل ثم درسوا إن كان نموذجهم سيحصل أم لا؟!
يجيبك الباحثون أنفسهم من الدراسة قائلين:
“هذا النموذج يتطلب أن يتم الحفاظ على نسخة الجين الإضافية دون اختيار، لفترة طويلة بما فيه الكفاية لإدخال تلك التحسينات النادرة؛ لأن نسخ التكرار الجيني تكون عموماً غير مستقرة جداً وقصيرة الأجل، فمن غير المرجح أن تبقى طويلة بما فيه الكفاية للحصول على طفرات”
ثم يخبروننا أن:
“وعلاوة على ذلك، فإن التكرار الجيني عادة ما يكون له تكلفة على لياقة الكائن، والطفرات الضارة تفوق عدد الطفرات المفيدة، مما يجعل تعطيل الجينات الزائفة (النسخ المتكررة) هو الاحتمال الأرجح لأي نسخ الجينات الزائدة عن الحاجة”
حسناً إذاً، يخبرنا الباحثون أنهم فعلوا كل ذلك لأن التطور ببساطة لا يعمل في الطبيعة .. لأن نموذجهم لن يعمل إذا ترك للصدفة والعشوائية .. ولأن الراجح أن تكرارات النسخ (إن حصلت) سيتم حذفها وإهمالها وتعطيلها فوراً، ضمن آليات الإصلاح الذاتي للخلية! ولأن الطفرات الضارة تفوق بكثير أي طفرات مفيدة! ولذلك، وضعوا العملية كلها تحت التحكم والاختيار الصناعي في المختبر! لماذا؟ لأن التطور لا ولن يحدث في الطبيعة يا سادة!
طيب ولماذا يا ترى تصمم هذه التجارب على البكتيريا؟ لأن عمرها قصير وأعداد أفراد الجيل كبيرة .. هذه التجربة التي وضعت تحت كل هذا التحكم تمت في فترة 3000 جيل من البكتيريا، والبكتيريا تنتج في المتوسط حوالي 20 مليار فرد في اليوم (3) .. طيب هل تعرف كم تكون الفترة الزمنية لـ 3000 جيل من الرئيسيات؟
فترة عمر الجيل في المتوسط في الرئيسيات هي 60 عاماً (4) ومتوسط عدد الأفراد في الجيل هو تقريباً 150 ألف فرد (5) .. يعني 3000 جيل من الرئيسيات ستحتاج فترة زمنية مقدارها تقريباً 180 ألف عام، مع الأخذ في الاعتبار قلة حجم الجيل جداً مقارنة بالبكتيريا طبعاً.
بمعنى آخر، لكي نقوم بنفس هذه التجربة في الرئيسيات، تحت نفس ظروف التحكم الهائلة هذه، لينتج عندنا جين يؤدي وظيفة محسنة من وظيفة موجودة بالفعل، سنحتاج إلى ملايين وربما مليارات السنين أخذاً في الاعتبار عدد الأفراد الصغيرة جداً في الجيل وطول فترة عمر الجيل الواحد!
وهكذا كما رأينا .. يكفيك أن ترمي جملة أو جملتين لتكون جاهلاً متمرساً .. وتحتاج ساعات وساعات لقراءة أي دراسة كي تكون طالب علم متمرس يفهم ما يلقى إليه!!
المصدر
1) Evolution of new genes captured2) Real-Time Evolution of New Genes by Innovation, Amplification, and Divergence3) https://www.encyclopedia.com/science-and-technology/biology-and-genetics/genetics-and-genetic-engineering/mutation-rate4) https://www.britannica.com/animal/primate-mammal/Growth-and-longevity5) Landscape Ecology and Population Dynamics

أشرف قطب

حاصل على بكالوريوس العلوم في تخصص الكيمياء الحيوية من جامعة بنها في مصر، وماجستير العلوم في إدارة نظم المعلومات، وماجستير الإدارة في تخصص إدارة المعلومات، وماجستير العلوم في إدارة النظم الهندسية، من جامعة ليستر في بريطانيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى